نبيل شرف الدين

حروب الهوية وتصالح روافدها

الخميس، 04 ديسمبر 2014 12:03 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ليس اختزالًا للأزمات التى تحاصر مصر والمنطقة برمتها بهذه المرحلة الانتقالية الصعبة، حينما أشير لمسألة الهوية الحضارية، التى يتعمد تيار "الإسلام السياسى" اختلاق أزمة بشأنها، عندما يضعون "الدولة الوطنية" مقابل ما يسمونه "دولة الخلافة" الأممية حيث يُشكّل تنظيم "داعش" النموذج الأكثر فجاجة، بينما يُمثل "التنظيم الدولى للإخوان المسلمين" الكيان الأوسع انتشارًا، ووالأخطر بالمراوغة وإعادة إنتاج "معضلة الهوية"، التى كنت أحسب أن جيل "آباء النهضة" المعاصرة حسموها منذ القرن التاسع عشر.

لكن جماعات "الإسلام السياسى" أعادتنا للمربع الأول وهو ما يُفسر مرحلة "الانحطاط الحضارى"، التى نكابدها حاليًا خلال مخاض عسير، واستقطاب عميق، ورغم أنها إحدى سمّات المراحل الانتقالية، التى حولها المسكونون بشهوة التسلط لمرحلة انتقامية واستخفاف الجماعة بالأمة، وتشويه تاريخ مصر القديمة واختزاله فى "الفرعنة".

تأسست جماعة الإخوان منذ ثمانية عقود، وظلت علاقتها بالأنظمة المتعاقبة تراوح بين محاولات الاحتواء والاستخدام والصدام، وتخللتها "شهور عسل" متقطعة تحولت لمواجهات دامية، حتى وصلت للحكم برئيسها المعزول محمد مرسى، وفشلت على النحو المعروف، لأن الجماعة بأدبياتها وتراثها وطموحاتها اصطدمت بجهلها أو تجاهلها لروح مصر الحضارية المتصالحة.

تسامح المجتمع المصرى مع المخالفين، واتسع صدره لاستقبال الغرباء المضطهدين، كما حدث ليهود أوروبا والأرمن وغيرهم، لكنها شهدت خلال العقود الماضية تحولا جذريًا فأصبح يضيق حتى بقطاعات أصيلة من أبناء جلدته كالمسيحيين مثلا، ولا يستسيغ المرء اللغو الفارغ والنفاق السياسى عن احترام الآخر، فما يقال أمام الكاميرات، والمؤتمرات لا صلّة له بالواقع المأزوم.

قبل الموجة المعاصرة للتعصب تجسدت روح مصر السمحة فاستعار الملحن رياض السنباطى صوت الأرغن الكنسى بلحنه الإسلامى "الثلاثية المقدسة" وكتب مرسى جميل عزيز "ترنيمة مسيحية" بإحدى أغنيات أم كلثوم تقول كلماتها:
عندى لك أجمل هدية
كلمة (وفى البدء كان الكلمة).
قول الحب "نعمة مش خطية"
الله محبة
هذه المفردات "قبطية مسيحية" صميمة، لكن المصريين عشقوها، واستمتعوا بأوبريت "الليلة الكبيرة" الذى كتبه صلاح جاهين وقال فيه: "قبة سيدنا الولى دول نوروها" مستعيرًا المعنى من ترنيمة "جبة أبو سيفين بعيدة جستنى" التى تُمجد القديس المسيحى الشهير.

ورغم بساطة هذه الأمثلة لكنها تؤكد تناغم الوجدان المصرى، الذى هضم عدة ثقافات إدراكًا لإنسانية الحضارة وتفاعلها، واستقرت بهويته وإرثه الأخلاقى، فتشربها موقنًا أن الهوية الحضارية ليست عنصرية، لكنها تشكلت عبر عدة روافد فتفاعلت ثقافات النوبة والأمازيغ والعرب وأوروبا وغيرها، لتُفرز صيغة بالغة الخصوصية لوعيها الحضارى، وهو ما تجاهلته جماعات التأسلم، التى تعمدت تشويه وتشويش وعى أجيال، فتعمق الاستقطاب الاجتماعى، مما يقتضى حسمه لصالح هوية مصر الجامعة لكافة الهويات الفرعية والعنصرية.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة