فى ختام أحد الأمسيات الثقافية الكبيرة منذ عدة شهور، أهدَتْ مُطربةُ الثورة الفنانة عزة بلبع أغنية (دولا مين) لأبطالنا وشهدائنا من الضباط والجنود الذين يَفدون مصر بأرواحهم فى وجه الأجلاف الإرهابيين فى سيناء.. فأبكت كل مَن فى القاعة وهى تقول (دولا مين ودولا مين.. دولا عساكر مصريين.. دولا مين ودولا مين.. دولا ولاد الفلاحين.. دولا الورد الحر البلدى.. يصحى يفتّح تصحِى يا بلدى.. دولا خُلاصة مصر يا ولدى.. دولا عيون المصريين.. دولا اخواتنا ودولا بَنينا.. دولا الأمل اللى يخّلينا.. دولا المجد اللى يعّلينا.. فوق الجرح نعود سالمين.. دولا يا سينا ولاد الشهدا.. دولا التار لا ينام ولا يهدا.. خللِى ترابِك يسكن يِهدا.. ويضم الشهدا الجايين).. كانت الكلماتُ ساخنةً وطازجةً وكأنها مكتوبةُ للتوّ لهؤلاء الأبطال.. مع أن أحمد فؤاد نجم كتبها منذ أكثر من أربعين عاماً.. وهكذا أشعار نجم.. عابرةٌ للزمان وعابرةٌ للمكان.
بعد غدٍ (3 ديسمبر) يكون قد مرّ عامٌ كاملٌ على رحيل شاعر مصر العظيم أحمد فؤاد نجم الشهير بالفاجومى.. أحد المُبدعين الذين حَبَانا الله بهم لنتذكر بذكراهم أن الأصل فى هذا البلد الطيب هو النور لا الظلام.. والتحضر لا التخلف.. والبهجة لا الحزن.
شكّل الفاجومى مع الشيخ إمام عيسى واحدة من أشهر ثنائيات الفن المقاوِم فى التاريخ المصرى والعربى.. حتى أننا لا نذكرهما إلا معاً، فنقول (هذه أغنية إمام ونجم أو نجم وإمام).. وقد كنتُ سعيد الحظ بصداقة الأسطورة أحمد فؤاد نجم عقب بلاغى بخصوص عمر أفندى سنة 2006 حتى وفاته فى ديسمبر 2013.. وإن كنتُ قد تعرفتُ عليه هو وتوأمه الفنى قبل ذلك بكثير مثل الملايين من عشاقهما.. كانت البداية فى السبعينيات عندما استمعتُ إلى بعض قصائد نجم الممنوعة والمُهرّبة من بعض الأصدقاء، فانبهرتُ بالكلمات مجرّدةً دون تلحينٍ ولا غناء.. إلى أن استمعتُ إلى بعض هذه الكلمات مجسّدةً فى صوت وألحان الشيخ إمام فى شريطٍ بدائىٍ مهرّبٍ فى نهاية السبعينيات.. فاكتشفتُ أن اللحن المُعبّر والصوت الصادق لإمام كانا بمثابة الجناحين اللذين حلّقا بالكلمات المعجزة لنجم إلى سماء الوجدان الشعبى. إن هذا الثنائى المعجزة يُذكرّنا بمصر البهية الولاّدة التى تزداد خصباً كلما ازداد عمرها.. والقادرة دائماً على مفاجأة الدنيا بمولودٍ جديدٍ عندما يظن الجميع أنها وصلت إلى سن اليأس.. بهية التى تلد النورَ عندما يُطبق الظلام، والجمالَ عندما يَسود القُبح، وبسمةَ الأمل من بين عبوس الهزيمة.. بهية العجيبة المعجبانية التى فاجأت الجميع من عُمق وعُقم النكسة بهذا الوليد التوأم الذى يستحيل أن يلتئم إلا فى رَحِم بهية.. نجم وإمام.
كان أحمد فؤاد نجم أحد المتفائلين الكبار بمصر وشبابها المتجدد (الزمن شاب وانتى شابّة.. هو رايح وانتى جاية).. وهو عاشقها المتيّم الذى دفع ضرائب عشقه كاملةً.. سَجناً وفقراً وإفقاراً وحصاراً.. فما اهتز حُبُّه ولا ثقته فى محبوبته التى كانت عند حُسن ظنه بها.. وبادلته حُبّاً بحب.. كان نجمُ صوتَ مصر وسوطَها.. صوت مصر الواثق القوى الحر.. وسوطها الذى تُلهب به ظهور الظالمين وأقفيتهم.. وكانت حياتُه تراجيديا كاملةً وسبيكةً فريدةً من الوطنية والمقاومة والموهبة والصعلكة والسجن.. وكانت ولا زالت قصائده وقوداً للثورة على الظلم والخنوع والضعَة وباعثةً للأمل فى كل البلدان العربية.. نجم الذى يمكن تلخيص حياته فى كلمتين.. عاش حراً.. عاش حراً حتى وهو فى سجنه.. وبقى وسيبقى بإذن الله وإلى ما شاء الله بعد سجانيه وظالميه وظالمينا.
وقد لخّص هو حياته بقلمه فى تقديمه لديوان أعماله الشعرية الكاملة سنة 2005 (وقعتُ فى شِباك الشعر من أول نظرة.. ومِن يومها وهو مشحتفنى ومجرجرنى وراه فى المحاكم والسجون، لِحدّ ما حِفيِتْ رجليا وتعبت أحلى تعب، وأنا برضه ماشى وراه.. بلاد الله خلق الله.. مطرح ما ترسى بادُق لها.. والمخوزق يشتم السلطان.. واللى يعرف أبويا يروح يقول له.. واللى يجيب لى العشا يحوشه.. وقدرت أقول كلمتى بالصوت العالى.. ورزقى على اللى رازق الدودة فى بطن الحَجَر.. لأن الشعر ربّانى وعلّمنى لا أبلع لسانى ولا أجّز على سنانى ولا أدهن الكلام ألوان، ولا أقول للقرد يا قمر الزمان.. وأنا فى الأصل عاشق تراب بلدى ومتمعشق فى ناس بلدى مصر المحروسة.. وباطلب من الله إنه يمد فى عمرى كمان فترة زى رؤساء الجمهورية تَبَعنا لِحّدّ ما أشوف بعينى مصر الخضرا بتغنّى للحب والزرع والحصاد، والعالم كله بيسمع ويقول: كمان يا ست كمان.. فى عشق مصر المحروسة، حَبّة عين العرب ونبض قلبهم الحىّ، كتبت هذه القصايد.. وفى عشق مصر حضنت كل القصايد وقدمتها للناس.. وكان الثمن مزيد من العشق والجنون.. وصَدق اللى قال المجانين فى نعيم.. والشعر حرية).
نحمد الله فى مركز إعداد القادة بالعجوزة أن وَفّقنا للاحتفاء بهذا العملاق فى حياته.. كان ذلك فى آخر عيد ميلادٍ له فى مايو 2013.. كان الرجل بالغ السعادة ومن أسباب سعادته أن ذلك أول تكريمٍ يأتيه من الدولة طوال رحلة عمره التى امتدت لأكثر من أربعةٍ وثمانين عاماً.. الحقيقةُ أننا نحن الذين كُنّا نُكرّم أنفسنا بتكريمه.. ثم إن الدولة لم يكن لها أى دوُرٍ فى هذا التكريم رغم أننا مؤسسةٌ حكومية.. إذ أن الفكرة ذاتية وتكفّل بها مُحبّوه.. بل لعل هذا التكريم كان من أسباب إقالة الدولة لمدير المركز بعد ذلك بشهر (27 يونيو 2013).. اكتشفنا مُتأخرين أن هذه الدولة الظالمة اتخذت موقفاً عدائياً فى كافة عصورها من هذا المُبدع العظيم، فلم تمنحه أىٌ من مؤسساتها الرسمية أيّاً من جوائزها التى مَنَحَتها أحياناً لبعض التافهين ومحدودى الموهبة.. لذلك فإن الشكر واجبٌ لمؤسسة ساويرس الثقافية (وهى مؤسسةٌ أهليةٌ) التى حاولت أن تَجبُر بعضاً من جحود الدولة فخَصّصَت اعتباراً من هذا العام جائزةً باسم الفاجومى تُمنح للمتميزين من الشعراء الشبّان الذين كان نجم يفرح بهم ويتبناهم.
فى السنوات الأخيرة لعصر مبارك، انتشرت على المواقع الإلكترونية عدةُ قصائد منسوبة إلى أحمد فؤاد نجم وتهجو مبارك وأسرته بالأسماء وبألفاظٍ خادشةٍ، وكان مستواها الشعرى أقلّ كثيراً من مستوى روائع أبو النجوم.. فسألتُه مباشرةً وكان على رأس الرافضين لمبارك وسياساته (هل هذه القصيدة أو تلك من تأليفك؟).. فأجابنى (طبعاً لا.. قصائدى هى التى صدرت الطبعة الشرعية الأولى منها من دار ميريت لصاحبها الواد الجميل محمد هاشم.. وقصائدى تقدر تعرفها من حاجتين: لا يوجد فيها لفظٌ بذئ.. ولم أُهاجم فيها حاكماً أو محكوماً مصرياً باسمه أبداً.. فأى قصيدةٍ لا يتوفر فيها هذان الشرطان تيّقن أنها ليست لى).. فسألتُه (فلماذا لا تنفى أنها من تأليفك؟) فأجابنى (شعراء شبان يريدون أن ينشروا أشعارهم ويخافون من بطش النظام.. فبيتحاموا فى اسم أحمد فؤاد نجم.. خليهم يتحاموا.. أنا مش حيجرالى أكتر من اللى جرالى).
كان أحمد فؤاد نجم يُحسن الظنّ بربّه ويقول ما معناه (مالكومش دعوة باللى بينى وبين ربّى.. هو عارف إنى باحبّه.. وأنا عشمان إنه يدخلنى الجنة).. ونحن لن نتطفل على ما بينك وبين ربك يا عم أحمد.. ولكننا ندعوه سبحانه الرحمن الرحيم أن يكون عند ظنّك به ويُدخلك فسيح جنّاته رغم أنف المتنطعين والأجلاف غِلاظ القلوب.. جزاء ما دفعتَه من حريتك من أجل حريّتنا.. إنه سميعٌ مجيب الدعاء.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة