هذا رجلٌ ساقَتْه الأقدارُ إلى دورٍ هو الدور الأخطر فى ثورة يناير.. وتَحمّل وهو فى الخامسة والسبعين وعلى مدى عامٍ ونصف العام، مسؤوليةً لم يسْعَ إليها.. فلم يهرب من أعبائها ولم يطمع فى مزاياها وأدّى الأمانة كأفضل ما يكون فى ظل الظروف المحيطة.. وتصدّق بعِرضِه من أجل أن يعبر بمصر وهى فى حالة ثورة.. ورَضِىَ أن يتحول إلى ما يشبه لوحة التنشين فى ميادين الرماية.. تُحّمله القوى السياسية المتناحرة أسباب فشلها.. ويصوّب عليه الجميع غضبهم «وسبابهم وبذاءاتهم أحياناً».. ومن المؤكد أن كثيراً من قرارات الرجل لم تكن على قدر الطموح الثورى.. وأن بعضاً من القرارات جانَبَها الصواب «وهل يوجدُ مُديرٌ بلا أخطاء؟».. لكن مِن الخطأ أن نُحاسبه كثائرٍ أو سياسىٍ.. هو نفسُه لم يَدّعِ ذلك.. حاسِبوه فقط كمصرىٍ وطنىٍ.. أبْلَى فى حروب الوطن.. وحافظ على احترافية المؤسسة الوطنية التى ترّأسها، فكانت هى المؤسسة الوحيدة التى لم تتلوث بمهانة التوريث التى طالت كل مؤسسات الدولة قبل الثورة.. بل إن فطرته السوّية دفعته إلى المجاهرة برفض عملية بيع مصر «الخصخصة» التى كان يقودها الوريث، مع ما فى ذلك من مجازفةٍ كان من الممكن أن تُكلّفه منصبه.. إلى أن قامت ثورة يناير.
ما أسهل أن تجلس إلى مكتبك أمام المدفأة أو جهاز التكييف وتُقيّم قراراً.. تنتقده أو تستملحه.. ثم تَغُّطُ فى نومٍ عميق وتصحو فى اليوم التالى لتضع رأيك فى عمودٍ صحفىٍ أو برنامجٍ تليفزيونى.. دون أن تضع نفسك مكان صاحب القرار الذى وَجَد نفسه فجأةً مسؤولاً عن إدارة دولةٍ محوريةٍ كمصر.. شعبُها فى حالة ثورة.. شرطتُها مُنهارةٌ.. وقضاؤها بالتبعية مُعطّلٌ.. والمتربصون بالوطن من كل صوْبٍ وحَدْب.. والملايين تزمجر فى الشوارع والميادين تطالب بخلع الرئيس.. وهذا الرئيس هو الذى اختارك قائداً لحرسه الجمهورى ثم وزيراً للدفاع لمدة عشرين عاماً كفيلة بأن تُضيف لعلاقات السلطة بُعداً إنسانياً لا فكاك منه.. أتحدث عن المشير محمد حسين طنطاوى الذى أكمل منذ يوميْن تسعةً وسبعين عاماً.. مَتّعه الله بالصحة والعافية.
هذا الرجل لم ألتقه فى حياتى «إلا لثوانٍ معدودةٍ فى واجب عزاء منذ عدة شهور».. ولم أنَلْ فى عهده «ولا عهد غيره» أياً من المناصب.. ولم يَعُد يملك من جاه الدنيا ما يُغرى أحداً بتملقه.. لكنها كلمة الحق التى لو لم نقلها فلا بارك الله لنا.
عندما نزل الجيش مساء 28 يناير 2011 سألنى كثيرون من الأصدقاء باعتبارى ضابطاً سابقاً ما توقعاتك بالنسبة لموقف الجيش؟ كنتُ أُجيبهم «أولاً: إطاحة الجيش بمبارك مرتبطةٌ باستمرار الاعتصام بالميادين وبأعدادٍ كبيرةٍ، لأن جيشنا وفقاً لعقيدته لا ينقلب على القائد الأعلى إلا إذا الشعب انقلب عليه، فهو جيشٌ محترفٌ غير مسيّس.. ثانياً: ولكن المؤكد وفقاً لنفس العقيدة أن رصاصةً واحدةً لن يطلقها الجيش علينا».
اتخذ المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة طنطاوى وقتها القرار الأسلم فى هذه الظروف «لا تحكموا على قرارٍ إلا فى ظروفه» فقد انحاز صراحةً إلى جانب الشعب، ليس فقط بالبيانات التى تتالت من اليوم الأول، ولكن بذهاب طنطاوى بنفسه إلى الميدان كأول وزيرٍ يذهب إلى مركز الاحتجاجات، وكانت زيارتُه رسالةَ طمأنةٍ واضحةٍ لنا، دون أن يعبأ بتبعات هذا الانحياز لو فشلت الثورة «لا قدّر الله».. وكانت أوامر الرجل حاسمةً وصريحةً فى الاجتماع الشهير لقيادات الجيش فى آخر يناير «قبل موقعة الجمل» بنزع الذخيرة من الجنود المحيطين بالميدان وألاّ تُطلق طلقةٌ واحدةٌ ولو فشنك ولو فى الهواء.. ورغم معارضتى لمبارك وثورتى عليه إلا أننى أتفهم «بل وأُقدّر» حرص طنطاوى وهو ينفذ إرادة الشعب بخلع مبارك على ألا يُهينَه وأسرته منذ أن أبعده إلى شرم الشيخ إلى أن أسلمه للقضاء المدنى.. فهذا التصرف ينّم عن أصالةٍ ومراعاةٍ للعِشرة فى شخصية طنطاوى «من الإنصاف أن نتفهمها وإن كان مبارك نفسه لم يتفهمها!» فضلاً عن أنه حفظ لنا وجهنا الحضارى.. ليسجّل لنا التاريخُ أننا شعبٌ خَلَعْنا ظالمينا ولم نسحَلْهم كشعوبٍ أخرى مجاورة.
ما حدث بعد ذلك أن الجيش ظلّ على عقيدته، لكن الذى تغيّر هو عددٌ من الحمقى الكبار والصغار الذين انجرفوا كالمغيّبين لِحمْلة شيطنةِ جيشِهم.. وهى الحملة التى كادت أن تودى بالدولة المصرية ولكن الله سلّم.
أول مرة أستمع للهتاف الصهيونى السافل «يسقط حكم العسكر» كانت عندما ردده أقلُ من عشرةٍ من الفوضويين فى ميدان التحرير مساء 11 فبراير عقب رحيل مبارك، وتلاشى هذا الهتاف أمام الطوفان الهادر «الجيش والشعب إيد واحدة» الذى رددته الملايين بتلقائيةٍ فى هذه الليلة العظيمة.
لكن فى غضون شهورٍ قليلةٍ أصبح الميدان مستباحاً لجحافل ثوار ما بعد الثورة ممن لم يكن لهم دورٌ فيها «بل إن بعضهم كان دوره سلبياً» وحاولوا تعويض ما فاتهم من الاشتراك فى الثورة الأم بافتعال ثورةٍ جديدةٍ مجانيةٍ ضد السلطة الجديدة المتسامحة.. وانضمت قوى سياسيةٌ وإعلاميةٌ «بِحُمقٍ أو سوء نية» لهذه الحملة الخبيثة.. وبدأت ألاعيب السياسة التى لا يفهمها ولا يُجيدها جنودُ الوطن.. يكسب المتسربلون بعباءة الدين تارةً فيهتف الليبراليون ضد طنطاوى.. ويكسب الليبراليون تارةً أخرى فيهتف خصومهم ضد طنطاوى.. أما عُصبة مبارك فقد كانوا «ولا زالوا» ضده على طول الخط ولم ينسواْ له أبداً انحيازه للشعب الذى حطّم أطماعهم.. ودارت آلة الإعلام الشيطانية بقوةٍ فألصقت كل نقيصةٍ بطنطاوى وبالجيش الوحيد فى المنطقة الذى لم تتلوث يده بدماء شعبه.. نقائص لا دليل عليها ولا يقبلها منطق، فإذا به متهمٌ باتهاماتٍ عبثيةٍ يعجز إبليس نفسه عن إتيانها جميعاً.. لكنه الكذب والإلحاح عليه.. وَضَعَ الجيشُ بقيادة طنطاوى نصْبَ عينيه هدفين يُحاسَبُ عليهما «وما عداهما تفاصيل وحواشى».. أن يحافظ على تماسك الدولة «وفى قلبها الجيش» وأن يُسلّم السلطة لرئيسٍ وبرلمانٍ منتخَبيْن.. ولم يُستدرج لمحاولات تعطيله.. فعندما كانت شراذم الغلمان من ثوار ما بعد الثورة تتطاول على الضباط والجنود الساهرين على حماية مصر بامتداد أرضها الطيبة «بمن فيهم الغلمان أنفسهم»، كنتُ أضع يدى على قلبى من احتمال أن يثور أحد الجنود لكرامته فيعصف بهم فيحدث ما يريده المُرجفون.. لكن طنطاوى أعلن لجنوده أنه شخصياً مُتسامحٌ مع ما يناله من سبابٍ وأصدر أوامره لهم بأن يصبروا ويبتسموا حتى تتم المهمة فى سلام.. أدار هذا الرجل العسكرى أكثر الانتخابات نزاهةً فى تاريخ مصر، وعندما أتَتْ بالإخوان اتّهَمَه خصومُ الإخوان «الذين أنجحوا الإخوان بأصواتهم» بأنه أسلم البلد للإخوان.. لا أدرى هل كان مطلوباً من الرجل أن يزوّر الانتخابات؟.
فى 30 يونيو 2012 أوفى الرجلُ بوعده وسلّم السلطة بطريقةٍ فاجأت الدكتور مرسى نفسه، إذ إنه أدّى له التحية العسكرية فى الهايكستب رغم أنه الأكبر سناً ومقاماً وتاريخاً، لكنها التقاليد العسكرية العريقة التى لم يفهمها الجَهَلة.
وعندما غَدَر به مرسى بعد أقل من شهرين بقرارٍ غير دستورىٍ وبطريقةٍ غير أخلاقية، تقبّل القرار وكان يملك عدم تنفيذه، لكنه كان حريصاً على سلامة وطنٍ أبقى من المناصب.
سيادة المشير محمد حسين طنطاوى.. شكراً.. وكل عامٍ وأنتم بخير.. وحجٌ مبرور وذنبٌ مغفورٌ بإذن الله.
يحيى حسين عبدالهادى
لا خيرَ فينا إنْ لم نشكر هذا الرجل.. المشير طنطاوى
الإثنين، 03 نوفمبر 2014 10:08 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة