للأسف.. نظراً لوجودى خارج مصر الحبيبة.. ستفوتنى احتفالية نقابة الصحفيين غداً بالذكرى الخامسة لرحيل واحدٍ من أنبل المثقفين المصريين.. الدكتور محمد السيد سعيد.. رغم أن هذه النقابة العظيمة كانت مكان التقائى الأول به فى أبريل 2006 عندما شرّفنى بالحضور مع جَمْعٍ من حُماة مصر الذين دعاهم محمد عبد القدوس وعبد الخالق فاروق لكى أتدفأَ بهم فى وجه نظام الفساد والاستبداد.. كانت المرة الأولى التى ألتقيه فيها وجهاً لوجه وإن كنتُ قد التقيتُه من قبل كثيراً على صفحات كُتُبِه ومقالاته.
محمد السيد سعيد.. ابن الثورة وأحد آبائها المؤسسين (كما وصفه أكرم القصاص)، وإن وافته المنيّةُ قبل أن يرى بشائرها.. المُثقف النبيل المهموم بقضايا وطنه وإقامة دولة العدل والقانون.. المهذب العفّ الشجاع الذى انتهز وجودَه فى حضرة السلطان للجهر بكلمة الحق المهذبة.. وبدلاً من أن يُمسك السلطان بهذه الفرصة ليجعل هذا الناصح الأمين ضمن خُلصائه من المستشارين، طَرَدَه من جنته (أو مما يحسبها جنته) وعامَلَه هذا الحاكمُ المغرور الجاهل (وكل مغرورٍ جاهلٌ) بصَلَفٍ وغِلظةٍ وبذاءةٍ.. كانت المواجهة التى جَرَت فى 16 يناير 2005 بين طَرَفَىْ نقيضٍ.. مثقفٌ وطنىٌ من الطراز الرفيع (فى الثقافة والوطنية معاً).. وعلى الجانب الآخر حاكمٌ جاهلٌ تركزت عبقريته فى كيفية الاستمرار فوق كُرسيه بكل الوسائل ثم توريثه لابنه من بعده.. حاكمٌ يَصدُق فيه قول طه حسين (جاهلٌ رَضِىَ عن جهلِه ورَضِىَ عنه جهلُه) لم يقرأ فى حياته كتاباً ولم يَجٍرِ على لسانِه بيتُ شعر.. حاكمٌ (نَصَحَ) يوسف إدريس فى بداية حكمه بأن يقتدى بسمير رجب (!!!!).
كان شهودُ المواجهة مئاتٌ من مثقفى مصر وموظفى وزارة الثقافة الذين جَمَعَهم وزير الثقافة للقاء الحاكم فى معرض الكتاب ليستمعوا إليه وينهلوا من فَيْضِ عِلمِه وحكمته.. فاجأ فيها الدكتور محمد الرئيسَ بقوله (حضرتك تكلمت وكأننا حققنا إنجازاً اقتصادياً وهذا غير صحيح.. نحن من أقل دول العالم فى الأداء الاقتصادي، وخلال 15 سنة لم نتخط أبداً %3.5 بينما تُحقق ماليزيا %8 والصين %11 وكوريا من 7 - %9.. نحن لا نستطيع الانطلاق ولا كسر سقف الـ%3.5.. ولهذا أسبابٌ كثيرةٌ.. لكننى سأشير إلى عاملٍ وحيدٍ وهو سَحْقُ كرامة المصريين.. المصرى فى بلده مُهان.. ومن شهرين أُلقى القبض على أعدادٍ تراوحت بين 2000 و 5000 مصرى من أبناء العريش بعد تفجيرات طابا.. تعرضوا للصعق بالكهرباء وأُطفئت السجائر فى أجسادهم.. هذا يجعل المصرىَ مقهوراً فى بلاده.. وحضرتك شخصياً مسؤول عن كرامة المصريين وفقا للدستور.. من أجل هذا يا ريس نريد دستوراً يوزع السلطات ويحقق التوازن بين السلطات وينشر السلطة ويقربها للشعب).. فلم يفتح الله على الرئيس إلا بالإجابة التالية (كيف تقول خمسة آلاف اعتُقلوا.. دى سينا كلها ما تجيش خمستلاف).. واستمر الحوار على نفس النمط.. محمد السيد سعيد يتكلم بصراحةٍ وبموضوعيةٍ فى إطارٍ من الأدب الرفيع والاحترام الكبير والعَشم فى إنصات الحاكم لما يصبّ فى مصلحة الحاكم والوطن فى آنٍ واحد.. والحاكمُ مذهولٌ مما يحسبه تجرؤاً.
وأثناء الخروج قال للرئيس (يا ريّس أنا لدىّ تصوّرٌ يمكننى تقديمه لسيادتك فى ورقة مكتوبة عن إصلاح سياسى ودستوري).. فإذا بالرئيس يقول له بغضبٍ (أنت متطرف.. وعلى فكرة بقى أنا بافهم أحسن منك).. ثم قال له (الورق ده تحطه فى.. ) ثم سَكتَ قليلاً وأكمل (جيبك) لينفجر حواريو الحاكم الجاهل البذىء فى الضحك والثناء على خفة دم الرئيس ورَوَقان بال الرئيس ومَعلَمةِ الرئيس (ياللقاعِ الذى كُنّا فيه!).. بعدها اتصل موظفٌ من هيئة الكتاب بمحمد السيد سعيد ليبلغه بإلغاء ندوته فى معرض الكتاب التى سبق الإعلان عنها.. وأُبلِغ بحرمانه من حضور لقاءات الرئيس مستقبلاً.
دَخَلَ محمد السيد سعيد هذه المواجهة وهو مُحّمَلٌ بتاريخٍ مُشرّفٍ لم يُتاجر به أبداً.. ابن بورسعيد الذى تخرّج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية سنة 1973 ليدخل الجيش مجنداً ويشارك فى حرب أكتوبر.. الباحث فى مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام بعد ذلك.. المُعتَقلُ والمُعذّبُ شهراً فى 1989 لتوقيعه على بيانٍ يُدين الاعتداء بالرصاص على عمال الحديد والصلب.. أحد المؤسسين الأوائل للحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية».
لم تَفُتّ صلافةُ وغلظةُ وبذاءةُ الحاكم فى نهاية هذه المناقشة فى عضُدِه، وإنما استمر فى كتاباته التى انحاز فيها إلى قيم العدل والحرية بأكثر من انحيازه لأيدلوجيةٍ بعينها.. كانت صفته الشهيرة أنه ليبرالى بين اليساريين أو يسارى بين الليبراليين.. وفى الفترة التى تَلَت مواجهته المباشرة مع الحاكم (2005) ووفاته (2009) أنجز الكثير من الأعمال.. لعل أبرزها تأسيس جريدة البديل.
داهَمَه المرض فى 2008 ولم يهتم النظام طبعاً بعلاجه لأنه من المعارضين، وإنما عالجته فرنسا تلبيةً لطلب مُثقفيها باعتباره مثقفاً عالمياً من المستوى الرفيع، والقوانين الفرنسية تسمح بذلك.. تدهورت حالته فى أكتوبر 2009 وتشبثت زوجته الوفية نور الهدى زكى بالأمل فى علاجه ولكنه أصرّ على العودة لمصر التى أحبَّها ليموت فيها.. وقد مات فيها فعلاً فى 10 أكتوبر 2009 بعد أسبوعٍ من عودته.
فى اليوم التالى كَتَبَ بلال فضل (مات أرجل واحد فى مصر.. مات المثقف الفعل الذى وقف شامخاً صُلباً فى مواجهة رئيس الجمهورية ليجأر فى وجهه بالحق دون أن «يوّطى» صوت قناعاته وينزل بسقف مبادئه مُراعاةً للظرف والمكان وهيبة المنصب.. ودون أن يدّعى البطولة ويتاجر بما فَعَلَه أبداً).
ولا أجد ختاماً لهذا المقال وتحيةً لروح الصديق النبيل إلا أبياتاً من رثاء الشاعر عبد الرحمن يوسف له:
ولَمْ تَكُ يَوْمًا بَذِيئًا ولَمْ تَكُ يَوْمًا نَسِيّا.. ولَمْ تَكُ يَوْمًا رَخِيصًا ولَمْ تَكُ يَوْمًا غَنِيّا.. ولَمْ تَكُ فى مَوْكِبِ العُهْرِ شَاهِدَ زُورٍ ولَمْ تَكُ يَوْمًا شَقِيّا.. ولَمْ تَكُ حِينَ تُعَدُّ الدَّنَانيرُ للخَائِنِينَ صَفِيّا.. ولَمْ تَكُ يَوْمًا دَعِيّا.. ولَمْ تَكُ يَوْمًا خَصِيّا.. فَعِشْتَ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ اليَسَارِ نَبِيّا..! ومِتَّ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ اليَمينِ رَضِيّا..!
رَحِمَ اللهُ محمد السيد سعيد وجزاه عن مصر وضُعفائها خير الجزاء.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة