فى شهر مارس الماضى، أسدلت محكمة بريطانية الستار على قصة شغلت الرأى العام البريطانى عدة سنوات، وقضت بسجن وزير الطاقة السابق كريس هيون وزوجته السابقة فيكى برايس، لمدة ثمانية أشهر لكل منهما بعد إدانتهما بالكذب بشأن مخالفة سرعة.
ولم يكتف القاضى بالعقوبة، بل وبخ هيون أثناء إصدار الحكم بسبب إصراره على الكذب، ومحاولة اتهام زوجته بالمسئولية عن المخالفة التى ارتكبها عام 2003، ولم تفلح اعتذارات الوزير عن الكذب فى انقاذه من زنزانة السجن باعتباره مسئولا فى وظيفة عامة لايجب أن يكذب على المواطنين.
هذا الحادث يكشف الشفافية فى المجتمع وحق المواطن فى الحصول على المعلومات، ومعرفة الأحداث ومايفعله المسئولون حتى لوكانت مخالفة سيارة، أما فى مصر فمازالت المعلومات، حق حصرى للحكومات بأمر الدستور قبل الثورة وبعدها وعلى الشعب أن يعيش فى عالم التخمينات والشائعات، وعلى الصحافة أن تلهث وراء المصادر وتلجأ إلى الاستنباطات، وخلق علاقات شخصية لتثريب بعض الوثائق والأرقام.
لقد ظل الشعب المصرى محروما طوال السنوات الماضية من الخدمات والإنجازات حتى أصيب بالأمراض والأسقام، ولكن الأخطر من حرمان الخدمات كان الحرمان من المعلومات وكشف الحقائق والأسرار، لأن معرفة الحقائق، والحصول على المعلومات هى الطريق لتغيير الفاشلين الذين بقوا على الكراسى سنوات طويلة، ولكن الدولة والنظام الفاسد ظل يحمى الفاشلين بالدستور من خلال عدم الإفصاح عما يحدث من أخطاء أدت إلى تراجع الوطن، وإنهاك المواطنين.
المفاجأة التى ذكرها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، إن ما يصل إلى الشعب من الحقيقة لا يزيد عن 7 إلى 8% فقط، تؤكد أن الشعب لا يعلم شيئا عما يفعله النظام، وما يتخذ من قرارت، وما يدور فى الاجتماعات وما يحدث فى القاعات من مهاترات، وكأن المسئولين فى مصر ملائكة معصومين من الأخطاء يفعلون مايشاءون، ولايحق للشعب الإطلاع على أى قرارات أو إمداده بأى معلومات إلا فيما يرغب فيه المسئولون، ويلمع صورتهم ويجمل سوء أفعالهم.
ولم يجد الشعب أمامه سوى الشائعات فأصبح كل شخص يفتى كيفما يريد فى أى موضوع، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تمت كتابة تاريخ مصر، وشخصياتها على مدار السنوات الماضية، وفقا للحالة المزاجية وليس المعلومات الحقيقية، لذلك نجد الكثير من الشخصيات الوطنية تم حشرها فى كتب التاريخ مع الخائنين وآخرين لم يقدموا أى شىء للوطن أصبحو أبطالا دون أن يكون لهم علاقة بالعمل الوطنى.
وبعد ثورة يناير المجيدة ظن الشعب أنه حر، ومن حقه الحصول على المعلومات، ولكن دستور الإخوان الذى اعتبروه أعظم دستور فى العالم وضع ثلاثة قيود مطاطية فى مواجهة هذا الحق تمثلت فى حرمة الحياة الخاصة، وحقوق الآخرين، والأمن القومى، لذلك ظل الحال كما هو عليه يكذب المسئول، ويخفى الحقائق والأسرار عن المواطنين.
ولم تفلح الموجة الثانية من الثورة فى إحقاق هذا الحق للمواطنين بل أبقت لجنة العشرة المعنية بتعديل الدستور على تلك المادة بما تحمله من قيود، ولم تكتف بذلك، وأنما ألغت حق المواطنين فى التظلم عند رفض إعطائهم الوثائق العامة، ومنعت مساءلة الجهة المسئولة عن ذلك الرفض.
وكأن الشعب ممنوع عليه الاطلاع على المعلومات، ومكتوب عليه أن يعيش فى الجهل ويبقى أسير الشائعات.
حق المواطن العادى فى الحصول على المعلومات ليس بدعة مصرية، بل أخذت العديد من دول العالم فى إقرار قوانين تضمن للمواطنين حق الحصول على المعلومات، ووصل عددها نحو 90 دولة حتى الآن.
وقد ساعد وجود مثل هذه القوانين فى كشف العديد من القضايا ومحاسبة المتورطين فيها، ففى بريطانيا على سبيل المثال، فجرت صحيفة الصنداى تليجراف عام 2009 قيام مجلس العموم البريطانى بتمويل أنشطة خاصة لأعضائه من ميزانية المجلس فيما عرف بـ"فضيحة نفقات النواب" فعندما تقدم محرر الجريدة بطلب للحصول على معلومات تتعلق بنفقات أعضاء البرلمان، تم رفضه، ليطعن الصحفى على الرفض، واستطاع أن يحصل على بيان تفصيلى لنفقات النواب، ومن بينهم رئيس الوزراء السابق جوردن براون وسلفه تونى بلير، وتم فتح تحقيق طال معظم نواب الأحزاب الرئيسية فى البرلمان، وأطاح بالعديد من الأسماء التى برز نجمها فى حزب العمال، ما دفع رئيس الوزراء إلى تقديم اعتذار علنى للشعب البريطانى، وتقدم رئيس مجلس العموم مايكل مارتن باستقالته، كل ذلك بفضل النص الدستورى الذى يلزم الدولة بتقديم المعلومات للمواطن سواء كان صحافيا أو شخصا عاديا.
كذلك حدث الأمر نفسه فى فرنسا عندما واجه الرئيس الأسبق جاك شيراك تهمًا بتبديد واختلاس أموال فور انتهاء ولايته الرئاسية، وتم تقديمه للمحاكمة ليصدر حكمًا ضده فى ديسمبر 2011 بالسجن عامين مع إيقاف التنفيذ نظرًا لتدهور حالته الصحية، ولولا توفر المعلومات للصحفيين ما كان للقضية أن ترى النور حتى يوم الدين.
بدون حق الشعب فى الحصول على المعلومات لن يكون هناك ديمقراطية حقيقة، بل كلام معسول من المسئولين ومسكنات تمكنهم من مرور السنين وهم على روؤس الناس قابعين، وستظل مصر فى ذيل القائمة الدولية للمنظمات العالمية المتخصصة فى الفساد والشفافية.
وللأسف لم تنجح ثورة يناير وموجتها الثانية حتى الآن فى إلزام أجهزة الدولة بالكشف عن المعلومات بل تراجعت مصر فى مؤشر الدول الأقل فساداً لتصل إلى المركز 118، بعد أن أصبح الفساد جزءا من حياة الناس، والنظام، فهل ستؤمن لجنة الخمسين على ما كتبته لجنة العشرة وتسقط فى بحر الخطايا وتحمى المسئولين من العبث بمصر، وتشجيعهم على الكذب والتضليل أم ستنتصر للوطن والمواطنين وتلزم الحكومة بكشف الحقائق ومعرفة الأسرار للإطاحة بالفاشلين الذين يكذبون على المواطنين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة