شهدت الفترة الأخيرة سباقا بين كبار السياسيين لكتابة مذكراتهم ومسيرة حياتهم، وتطلع الجمهور لقراءة هذه المذكرات لمعرفة الخبايا والأسرار وخاصة أن هؤلاء السياسيين والعسكريين ظلوا قابضين على كراسيهم لسنوات طويلة وقتلوا خلالها أحلام وطموحات العديد من الأجيال فى تقلد مناصب قيادية فى الوظائف الحكومية.
كما توقع الجميع أن تكشف هذه المذكرات ما تخفيه الحكومة والمسئولون فى الدولة من أسرار وما يدور خلف الكواليس من قضايا ومهاترات وكيف يتم مواجهة الأزمات وتتخذ القرارات، وغيرها من الحكايات ولكن المفاجأة أن القارئ لهذه السير يجد أن هؤلاء السياسيين لايكشفون أسرارا ولايقدمون لنا الخبايا، بل ينسجون قصصا تبدو من الخيال كأنهم يكتبون للسينما أو التليفزيون ولاينقلون واقع شهد الكثير من الانكسارات، على مدار السنوات الماضية ويجعلون من أنفسهم أبطالا لهذه الروايات، وأنبياء ومرسلين كانوا يجاهدون لنشر الفضيلة فى مجتمع الرذيلة، فى محاولة لتطهير سيرتهم ومسيرتهم من رجس السياسة وأوثانها بنفس الطريقة التى حاول بها بول بريمر الذى عينه الرئيس الأمريكى السابق بوش رئيسا للإدارة المدنية فى العراق بعد الغزو الأمريكى حيث يبرر بريمر فى مذكراته تدخل أمريكا فى الشأن العراقى بإلقاء المسئولية على السياسيين العراقيين متنصلا من مسئولياته وإصراره على توسيع مجلس الحكم من سبعة إلى خمسة وعشرين شخصا، ثم يسخر من المجلس لأنه لايستطيع الاتفاق على قرار بسبب كثرة عددهم وعدم تجانسهم، كذلك الأمر بالنسبة للسياسيين فى مصر حيث يدعى كل منهما فى كتاباته بأنه كان يقدم المشورة الصحيحة والرأى السديد عند وقوع النوائب والازمات ولكن لايؤخذ بها، وكأنه كان ملاك وسط الشيطان وبذلك لايتحمل أية مسئولية عن الانكسارات التى يعانى منها الوطن على كل المستويات، كذلك يقول بريمر فى نهاية مذكراته اليوم أصبح العراق موحدا فى استخفاف بالقارئ قبل أن يكون تبريرا عقيما لأخطائه وأهدافه الخبيثة بتدمير العراق.
السير الذاتية تكشف المزاجية فى كتابة التاريخ حيث يدون المنتصر الأحداث على هواه وبما يحقق مصلحته ويرفع شأنه وعندما تتبدل الأمور يأتى الطرف الآخر بشىء مختلف تماما كما جاء فى مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلى حيث تمزق مذكراته كل الخيوط السياسية التى حيكت فى الحقبة الساداتية حول حرب أكتوبر.
كنا نتمنى أن تكون مذكرات هؤلاء السياسيين وكذلك العسكريين على غرار مذكرات المفكر الدكتور حسن حنفي، الذى أطلق عليها "سيرة شبه ذاتية" وكأنه يعترف بأن هذه ليست سيرته بل ما يدرو فى ذهنه من أفكار وقلق كسائر الفلاسفة.
وأن لاتكون السير الذاتية على غرار مذكرات الفليسوف الراحل عبد الرحمن بدوى التى أثارت مذكراته حفيظة الكثير من الناس ضده، لما فيها من اتهامات حيث أعتبرها البعض انتقام من رموز عصره، فيدعى أن الأمام محمد عبده لا يعرف أى شىء عن الإسلام، وعباس العقاد لم يكن مثقفاً وليس لديه شىء يقدمه للقراء، متجاهلا عبقريته ومسيرته ومؤلفاته المتعددة.
فهل المذكرات بوح بالأسرار؟ أم انتقام على الأوراق من بعض الشخصيات؟ أم تجميل للمسيرة وحسن الختام؟ كما يقول ميخائيل نعيمة، وهل تُعبر المذكرات عما فيها من عبر وحكايات ومواقف ومشاهدات فى التعامل مع الشعوب أم أن ذكرها لمصمصة الشفاة والعض على الأنامل، حيث يذكر رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى فى مذكراته عندما اغتيل الرئيس الأمريكى جون كيندى فى نوفمبر سنة 1963، وتولى بعده نائبه ليندون جونسون، وفى يوم توليه خرج ليتحدث على الهواء للصحافة، فتقدم منه أحد الشباب ليقول له (أنت رجل قذر)، لم يصدق الجنزورى أذنه حسبما يقول فكيف يخاطب هذا الشاب رئيس الجمهورية الأمريكية بمثل هذه العبارات، وبهذا الأسلوب البعيد عن كل الأخلاقيات، ولكن الرئيس لم يفقد الابتسامة ورد على الشاب قائلًا: قد تكون على حق فأنا أعمل منذ فترة طويلة فى مهنة قذرة وهى مهنة السياسة. فهل يمكن أن يعترف سياسينا بمثل هذه المواقف وكيف كان تصرفتهم فيها، أم أنهم ملائكة لايتعرضون للإحراج والأزمات، وأن مذكراتهم تعبير عن عالم الخيال الذى يعيش فيه الكثير منهم، وليست انعكاسا للواقع الذى يعانى منه المواطنون.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة