كان يجلس على حِجرى، وبين أنامله الغضة "الريموت" أو حسب المجمع اللغوى: جهاز التحكم عن بعد، نشاهد معًا فيلم الرسوم المتحركة "البحث عن نيمو"، من إنتاج شركة "بيكسار"، والذى تمت "دبلجته" إلى العامية المصرية، بصوتى خالد صالح وعبلة كامل.
ابنى الأكبر مهند، لما كان فى نحو الثانية، وقد شغف بالفيلم الرائع، وصار يكرر مشاهدته منذ يصحو حتى يخلد إلى النوم، إلى درجة أن شفتيه الرقيقتين كانتا تستبقان الحوار، وكنت كثيرًا ما أستجديه خافضًا جناح الذل، مغلوبًا على أمرى أن نشاهد شيئًا آخر، فيمارس ديكتاتوريته على، معتمدًا على أنه "نور عينيّ" واثقًا كل الثقة فى أننى سأستسلم له سعيدًا، يملأ نفسى ذاك الطرب الاستثنائى بزقزقة ضحكاته، إذا تنساب عذبة من حنجرته، على ذات المواقف التى سبق أن ضحك عليها، عشرات وربما مئات المرات.
الفيلم الذى اقتنيته ضمن مكتبة تضم مئات الأسطوانات المدمجة، يروى قصة ذكر صغير من أسماك "البهلوان" التى تعد من أكثر أسماك الزينة نشاطًا وتألقًا، واسمه "نيمو".. كانت سمكة "باركودا" قد افترست أمه، ومعها البيض الذى وضعته فى عشها، باستثناء بيضة واحدة، خرج منها "نيمو" إلى "أمواج الحياة".
ومنطقى أن "نيمو" قد أصبح بالنسبة لأبيه كل شيء، بعد رحيل "المرحومة"، ومن ثم كان يبالغ فى التضييق عليه، ويمعن فى سلبه متعة أن يختبر الصواب والخطأ، خوفًا من أن يخسره مثلما خسر أمه.
ومنطقى أيضًا، أن الصغير -ككل الصغار- كان يضجر بقيود السلطة الأبوية، يتمرد عليها ثائرًا راغبًا فى أن يلاطم أمواجها بزعانفه الصغيرة، حتى قرر ذات مرة أن يتحدى الأوامر والنواهى، فأطلق لزعانفه العنان، عائمًا فى منطقة خطيرة، فيها صيادون وأسماك مفترسة، فوقع أسيرًا بين يدى طبيب أسنان، كان يغوص لاصطياد أسماك الزينة.
وهكذا.. تقطعت السبل بين الأب والابن، وصار "نيمو" حبيس حوض زجاجى بعيادة أسنان، تقع على المحيط فى "سيدني" بأستراليا، ومعه مجموعة من الأسماك الأسيرة، التى سبقته، وكانت تضع طوال الوقت خططًا للهروب تبوء طوال الوقت أيضًا بالفشل.
وفى هذه الأثناء، كان الأب المسكين، يجوب المحيط ملهوفًا مُلتاعًا، يضنيه البحث عن سبيل إلى ابنه، يواجه أخطارًا ويجابه أهوالا، منها: هجوم أسماك قرش، ومنها ابتلاعه من قبل حوت، لفظه بعدئذٍ على سواحل سيدنى، حتى التقمه طائر لقلق بمنقاره فحمله إلى العيادة، وصولاً إلى تحرر "نيمو" من الأسر، وهروبه عبر مواسير الصرف الصحى إلى المحيط مجددًا، فى إطار من سيناريو مشوق فيه تصاعد درامى ذو إيقاع سريع رشيق.
وبطبيعة الحال.. كنت كأى "أب غلس"، أردد طوال الفيلم على مسامع صغيرى دروسًا مهمة وكلامًا كبيرًا، حول حب الآباء للأبناء واستعدادهم لبذل حياتهم فداءً لهم، وهو بما أقول متبرم يحس ضجرًا، يرد على كلامى أحيانًا بصفعة بيمناه على وجهى، فأشعر بتلك "اللسوعة" التى ليس كمثلها شيء إلا رصاص الداخلية الذى أخبرنا الدكتور حسام عيسى عنه، وهى "لسوعة" لذيذة، نسأل العزيز القدير أن يحظى بها "ثائر الأمس وزير اليوم" من أحفاده.
ومثلما هرب "نيمو" إلى المحيط، فى لحظة هرج ومرج، هربت الأسماك الأسيرة فى الحوض بدورها، لكن ليس عبر المواسير، وإنما عبر انتهاز فرصة أن الطبيب شرع ينظف الحوض، فوضعها داخل أكياس بلاستيكية مليئة بالماء، فأخذت تتدحرج وتتقلب داخل الأكياس، فاجتازت الشباك، فعبرت الشارع، فنجت بمعجزة من الموت تحت عجلات السيارات المسرعة، فسقطت "بأكياسها" محكمة الغلق فى المحيط الذى طالما حلمت ببلوغه، لكنها رغم ذلك لم تتحرر فعليًا، إذ بقيت بعد مغادرة الحوض الزجاجى، سجينة داخل "أكياسها".
وينتهى الفيلم بتساؤل مدهش، لسمكة "محبوسة" تبصر الحرية عبر "البلاستيك الشفاف" ولا تنالها، تقترب كل القرب من أحلامها، وتبتعد كل البعد عنها: وبعدين!
نعم.. وبعدين!
يبدو أن الإجابة على هذه الـ"بعدين" هى ما لم ننتبه له فى الموجتين الثوريتين الأولى والثانية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة