نصت خارطة الطريق المعلنة بعد ثورة 30 يونيو على أن محطاتنا السياسية هى الدستور ثم انتخابات البرلمان ثم انتخابات الرئاسة، وهى مطابقة للطلبات السياسية المعلنة بعد ثورة 25 يناير وإن لم يستجب لها المجلس العسكرى والإخوان حينها، فتم ترتيب المرحلة الانتقالية من الانتخابات الرئاسية ثم البرلمان ثم الدستور، فكانت تلك التراتبية هى إحدى مقدمات الانفجار السياسى الشعبى فى 30 يونيو.
خارطة الطريق بعد 30 يونيو وإن كانت أعادت الطلبات النظرية لثوره 25 يناير لكننا يجب أن نتوقف قليلا لنرى هل هى تناسب وضعنا السياسى الآن؟ قد تكون تلك الرؤية من الناحية النظرية مقبولة إلا أنها من الناحية العملية قد تكون محفوفة بالمخاطر الآن، وقد يكون إعادة ترتيبها مرة أخرى أكثر جدوى وملاءمة لواقع نعيشه ويجب أن نتعامل معه بكل حساسية وتفهم، فلا خلاف أن يكون الدستور أولا دائما، ولكن الانتخابات الرئاسية يجب أن تحل بعده ثم البرلمان لأسباب سوف أورد ذكرها.
بعدما عانت ثورة 30 يونيو من تزييف لزخمها الشعبى وأعداد المواطنين الذين زحفوا لكل شوارع مصر وميادينها، وبعدما ارتكز المجتمع الدولى صاحب الهوى على أكاذيب الإخوان وتم اختلاق وتسويق كلمة انقلاب كواقع سياسى مصرى صنعه الجيش، أصبح من الواجب والضرورى أن نزيل هذا الضغط المدفوع والمأجور والمخدوع ونتحول فورا وبلا أى تباطؤ إلى رئيس منتخب انتخابا حرا مباشرا من الشعب، مما سيجعل الجيش بمنأى عن الضغط الدولى، ويخلق رأسا لدولة منتخبة، يكون من المفيد جدا تصديرها دوليا فى المعاهدات والاتفاقات كما القروض، وكذلك فى تمثيل الدولة خارجيا وداخليا، وبهذا تسقط دعاوى الجماعة الإرهابية عن الانقلاب وننتقل بحركة سريعة الخطى للاستقرار السياسى والثقة الدولية، كما أن دول الإقليم العربى التى تساعد مصر بالمنح والقروض قد تجد فى هذا التحول السريع ثقة فيما تدفع من أموال واتجاهات صرفها، لأنه ليس بعيدا عن الفهم أن هذه الدول الشقيقة كما أنها تدفع لإنقاذ مصر، فهى أيضا تنتظر عائد هذا الاستثمار على أمنها القومى وتماسك أطرافها الحدودية والإقليمية، وهنا وجود رئيس يشخص هذه الحالة ويحقق أغراضها شبه كاملة هو واجب، وضرورى للحالة الراهنة، بخلاف وجود برلمان «وحيد» فقط ولا يمثل رأس السلطة التفيذية.
ليس خفيا على أحد فى مصر أو العالم أن مصر دولة لما تبرح المركزية وأن نظام الدواوين والمصالح مازال مركزيا فى كل مكاتباته وإجراءاته، وبطبيعة الأمور كل دولة هرمية مركزية لا تستطيع التحرك دون رأس فاعل، وفى حالتنا هذه فإن الإسراع بانتخاب رئيس جمهورية يوجد رأس السلطة التنفيذية سريعا، مما يمثل استقرارا حكوميا واتزانا نفسيا وفعليا لأجهزة الدولة كاملة، وقد يعطى هذا الوجود للرئيس على رأس السلطة شرعية أيضا لرئيس الحكومة والأعضاء لأنهم بذلك سيختارون فورا من رئيس الجمهورية المنتخب مما يكسبهم جزءا إضافيا من شرعيته الشعبية إلى أن يتم انتخاب برلمان وتكتمل أركان نظام الحكم الشاخصة فى الدستور الجديد، المراد قوله إنه بانتخاب رئيس تنتقل شرعيته للحكومة التى يختارها تلقائيا، وهو حل قد يكون سريعا لإنقاذ ذلك الوطن والمضى بإجراءات تنفيذية لا يعيقها الضغط الدولى المستمر والتلكك بعدم إنشاء سلطات منتخبة.
كما أن الرئيس سيكون له سلطة التشريع الناجز والسريع للأمور العاجلة والضرورية المؤقتة إلى أن يعرضها على أول برلمان منتخب، وقد تكون تلك السلطة لو رشد استخدامها وأحسن الاستعانة بها من عوامل إنقاذ الوضع الراهن سواء السياسى أو الاقتصادى، وهنا لا يفوتنى ذكر فرق سرعة التشريع فى يد الرئيس وما قد يطوله من إعاقة فى يد برلمان كبير متعدد الأعضاء، تلك الحلول الوقتية المحددة والإجرائية ليست انقلابا على الديمقراطية من ثائر، أو ردة على الأحلام أو خروجا من خط النضال، ولكنها اعتراف بواقع مؤقت يجب علينا أخذه فى الاعتبار، ومن الحنكة السياسية أن نحيطه بسلسلة من الإجراءات والمواءمات المؤقتة لإنقاذ وطن يتهافت عليه الأعداء من الداخل والخارج ويتعرض أمنه القومى للخطر كل دقيقة.
إن الدخول على انتخابات رئاسية أولا وقبل البرلمان يجعلنا نمر على مرحله الاختيار فى ظل «توحد نسبى» لم تفرقه الانتخابات البرلمانية بصخبها العالى وتصارع الأحزاب فيها، والذى يخلق الكثير من الضغائن والعداوات فى الوسط السياسى، بل من المفيد أن أقول أيضا إن انتخاب رئيس أولا سينتج آثاره أيضا على انتخابات البرلمان، والتى قد تكون فى جو أكثر صحة فى وجود الرئيس مستقرا، وهنا اللافت للنظر حديث البعض عن تأثير انتخاب الرئيس أولا على أغلبية البرلمان وألوانه الحزبية، وهو أمر لا يرى منظروه الواقع المصرى الذى يختلط فيه أحزاب ضعيفة لم تستطع أن تبنى قدراتها الذاتية حتى الآن «وقد يكون نظرا لتواتر الظرف السياسى فى اطراد سريع ومذهل»، لذا فإن تأثير انتخاب الرئيس سيكون محدودا إن لم يكن منعدما على الاختيارات البرلمانية.
أتصور أيضا أنه من الناحية الأمنية انتخاب رئيس أولا قد يكون أسهل فى التعامل الأمنى لأن ثلاثة أو أربعة منافسين جادين أسهل من آلاف يتنافسون بشدة على كل المقاعد فى كل الدوائر، فهو حمل أمنى لا تستطيعه الداخلية والجيش الآن وفورا فى ظل واقع يشعله الإخوان يوميا ويستفزون الأمن والشعب فى بقاع كثيرة، لذا فإن الانتخابات الرئاسية تأخذنا لانتخاب رأس السلطة سريعا وبتكلفة أمنية أقل، وبذلك تصلح انتخابات البرلمان بعدها متممة مكملة لواقع سياسى واضح المعالم.
إن مصر فى «احتياج» لسلطة منتخبة سريعا جدا ومعبرة عن الشعب وبأقل تكلفة سياسية وأمينة وبأعلى عائد استثمارى سياسى، مصر تريد رئيسا منتخبا بإرادة شعبية حرة تخرس الألسنة المحرضة سريعا وتمسك بزمام الحكومة، وتتعاون مع الدول وتزيل الضغط السياسى من فوق رأس الجيش المصرى العظيم، مصر «تنتظر» أن تنقل خطواتها بحكمة على خريطة طريق واقعية واضحة الحدود والعواقب والمكاسب، مصر تستحق أن تتربع على قلب ثورات الربيع العربى بدستور ثم رئيس ثم برلمان منتخبين بحرية وبتراتبية صحية وواعية ومبصرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة