د. عمار على حسن

الإعلام الجديد يقود «الثورة الناعمة»

الأربعاء، 06 نوفمبر 2013 06:16 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ألغت شبكة «الإنترنت» المسافات، واخترقت السدود والحدود، مازجة بين الصوت والصورة والكلمة فى صيغة رقمية، بعد أن دمجت الحوسبة بالاتصال، وأزالت الفواصل بين العمل والترفيه، وفتحت نافذة وسيعة للجماهير الغفيرة، كى تشارك فى ثورة اتصال تغير كل يوم أنماط الحياة والتفكير فى مختلف دول العالم، بدرجات متفاوتة، وتنتج مشاهد ومعالم وأحوالا لا تُصم عنها أذن سميعة، ولا تغمض عنها عين بصيرة.
وما جرى فى الإعلام خلال السنوات الأخيرة هو ثورة بكل المقاييس، يمكن أن نصفها بأنها «ثورة إعلامية» أو اتصالية، تضاف إلى الثورات الناعمة التى يشهدها العالم، والتى تغيرنا من دون إراقة أى قطرة من دم، لاسيما بعد أن صارت الثورات السياسية نفسها تنساب فى سلاسة وسلامة عبر التطور الديمقراطى، كما يقول جون فوران وزملاؤه فى كتابهم الأثير «مستقبل الثورات». والثورة الاتصالية تلك تكسر النماذج الإرشادية التقليدية، متسقة فى هذا مع الطفرات المعرفية التى شهدها العالم فى العقول الأخيرة، ومن ثم لا يمكن فهمها أو الإحاطة بها اعتمادا على طرق التفسير التقليدية لأداء الإعلام، ونظرياته البسيطة المعهودة، بل تحتاج إلى اقترابات ومداخل مبتكرة وجديدة تواكب التطور الرهيب الذى يشهده عالم الاتصال، لاسيما فى مجال «مواقع التواصل الاجتماعى» التى ساهمت بشكل واضح فى إطلاق الانتفاضات والثورات العربية التى لا نزال نعيش تداعياتها.
ولهذه الثورة سمات عدة، سأشرحها فى هذا المقال، كنوع من العصف الذهنى، أو مجرد طرح أولى ينتظر التعديل بالحذف أو الإضافة، وأولى هذه السمات هى توسيع المشاركة الشعبية فى صناعة الإعلام، بما جعلنا نشهد ما يمكن أن يسمى بـ«المواطن الصحفى»، إذ إن بوسع أى شخص أن يكتب ما يشاء ويبثه على الإنترنت فى موقع خاص أو مدونة أو حتى فى تعقيب على مقالات الكتاب، وأخبار وتقارير وتحليلات وتحقيقات الصحفيين.. وهذا الاتساع حقق كل ما حلم به من كتبوا منذ عقود عن «مسرح المقهورين» متخيلين ومطالبين بأن يشارك المتفرجون فى صناعة النص المسرحى وتمثيله. والسمة الثانية هى تعزيز الفردية، التى تتغول دوما بفعل التقدم التقنى وتغير بعض أنماط وطرائق المعيشة.. فمثلا أدى اختراع الطباعة وتقدمها إلى إنهاء التجمعات البشرية التى كانت تتحلق حول شخص يقرأ لهم مخطوطا، وبات بوسع كل شخص أن يقرأ كتابه مختليا بنفسه.. كما أدى اختراع الساندويتش إلى انصراف أفراد الأسرة عن التجمع لتناول الوجبات اليومية المعتادة.. وعلى المنوال نفسه فإن الإنترنت ستزيد من عزلة الفرد عن المحيطين به مباشرة من أفراد الأسرة والأصدقاء والرفاق، وتعيد دمجه فى «مجتمع افتراضى»، ليصبح له أصدقاء من شتى أرجاء المعمورة قد لا يرى وجوههم أبدا، لكنه يتواصل معهم ويقضى بصحبتهم ساعات طويلة عبر «البريد الإلكترونى» و«الماسينجر» و«الشات» و«الفيس بوك» و«اليوتيوب». ومثل هذا الوضع قد يعيد فى المستقبل تشكيل الهويات والانتماءات، وقد نرى بعد سنوات اختلافا بين جمهور كرة القدم الإماراتى مثلا ليس حول تشجيع فريقى «العين» و«الوصل»، بل حول تشجيع فريقى «مانشستر يونايتيد» و«ليفربول».
أما السمة الثالثة فهى إعطاء دفعة قوية لاقتصاديات المعرفة، فإذا كان النفط قد لعب دورا حيويا فى الثورة الصناعية، فإن عالم الرقميات ستكون له اليد الطولى فى الطفرات الاقتصادية الحديثة، التى تسعى جاهدة إلى الاعتماد على بدائل جديدة للطاقة، وإلى إنتاج سلع جديدة، لم يعرفها العالم من قبل.
والرابعة تتعلق بتحدى السلطة، عبر منازعتها فى امتلاك وسائل الإعلام، والرد عليها حين تستخدم هذه الوسائل فى التعبئة والحشد وتبرير السياسات القائمة، وتزييف الوعى فى شقه المناهض للاستبداد والفساد. وهنا يكسر الإعلام الجديد تسلطية وأحادية ورسمية وقدسية أهداف الإعلام القديم، ويضغط على السلطة من أجل تحسين الأوضاع القائمة، وتغييرها بما يؤدى إلى مزيد من الحرية والكفاية، وقد بلغ الإعلام فى هذا حدا عاليا، إلى درجة أنه بات يمثل الرقيب الحقيقى على أداء الحكومات، فى ظل نظم تتراوح بين الشمولية والطغيانية، حولت البرلمانات إلى مقهى عام، وسلبتها وظيفة المراقبة، ووظفت دورها فى تشريع القوانين لخدمة من هم فى سدة الحكم وتابعيهم.
والإعلام الجديد الذى تتآكل قدرة السلطة المستبدة عن حصاره وتقويضه وإسكات صوته، سيؤدى بالتتابع إلى تعزيز الحريات الثلاث حول التفكير والتعبير والتدبير، إذ إنه يساعد الناس على الاطلاع على ما يجرى فى مختلف أرجاء المعمورة من طقوس وطرق تفكير وتصرف، وتفتح أمامهم بابا وسيعا ليعبروا عن آرائهم، ثم يمنحهم وسيلة مهمة للممارسة النضال المدنى، حيث يعينهم على التواصل والتعبئة والتحريض على معارضة النظم المستبدة، لكن الإنترنت تظل هنا مجرد وسيلة وليست غاية، فالدعوة إلى العصيان المدنى والإضرابات والاعتصامات من خلال البريد الإلكترونى أو الفيس بوك، إن لم تتبعها استجابة فى الواقع فإنها تفقد معناها.
والخامسة ترتبط بالإفراط فى استخدام الإعلام كركيزة أساسية فى السجال العقائدى الذى يدور فى العالم أجمع، لاسيما بعد أن صار الدين يشكل عاملا بارزا من عوامل الصراع الدولى الراهن، بفعل إزكاء الولايات المتحدة لمسار «الإسلاموفوبيا» فى سياق بحثها عن عدو عقب انهيار الاتحاد السوفيتى، من جهة، وطرحها فكرة «الفوضى الخلاقة» التى تقوم على إشعال النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، من جهة ثانية.
ومع تغول العولمة وعودة الاستعمار التقليدى، بعد أن ظنت الأغلبية من علماء السياسة أنه قد ذهب إلى غير رجعة، يتصاعد دور الإعلام فى المقاومة، فتظهر قنوات تابعة لتنظيمات مقاومة، مثل «المنار» الناطقة بلسان حزب الله، و«الزوراء» التى كانت تطلقها المقاومة العراقية. وتظهر أيضا مواقع على شبكة الإنترنت لبعض الجماعات والتنظيمات والحركات المناوئة للولايات المتحدة، وفى مطلعها «تنظيم القاعدة» الذى استخدم هذه الوسيلة فى التواصل مع أفراده، بعد تشتته إثر إزاحة طالبان عن السلطة فى أكتوبر 2001.
هذه السمات الخمسة تضع الإعلام القديم أو التقليدى فى تحد واضح، لكن ليس بوسعها أن تهيل عليه التراب كاملا، فنظريات التحديث على اختلافها، تنبئنا بأن القديم لا يموت كله، وتؤكد فى الوقت ذاته أن القديم لا ينطوى دوما على شرور أو نقائص يجب التخلص منها، بل إن بعضه أجدى للناس من أشياء. وقد ظن بيل جيتس أن الصحف الورقية ستختفى تماما عام 2018 لكن الأمر الواقع جعله يعيد النظر فى رأيه، ويعترف أنه لا يمكن أن يقطع بشىء خاص بمستقبل لا يراه، ولا يلم بقوانينه وظروفه كافة. ومن ظنوا أن القراءة على الإنترنت ستؤدى إلى اختفاء الكتاب المطبوع عادوا لينتجوا كتابا إلكترونيا على شاكلة الكتاب الورقى، يمكن أن يصطحبه القارئ إلى مخدعه، ويستمتع بقراءة تحت ضوء حميم. وعلى التوازى زاد توزيع الكتاب المطبوع، ليصل إلى أرقام غير مسبوقة، نرى مثالا لها فى رواية «هارى بوتر» التى وزعت حتى الآن أكثر من خمسين مليون نسخة بلغات عدة، ورواية «الخيميائى» للأديب البرازيلى باولو كويليو التى وزعت نحو ثلاثين مليون نسخة.
إن البعض انساق وراء الثورة الجارفة للإعلام الجديد، وظن أن المطبعة ستدفن مع مخترعها الألمانى يوحنا جوتنبرج حين تحل ذكرى مرور أربعة قرون على وفاته عام 2048، أو توضع فى المتحف برفقة الفأس البرونزية، لكن الأمور تسير عكس هذا الخط البيانى المتوهم، وتثبت أنه من الخطأ الجسيم أن نخلط خلطا ظاهرا بين «الآلة» و«السلعة»، فالآلة المتطورة تنسخ أختها المتخلفة أو تلغيها كلية، لكن السلع الجديدة لا تلغى القديمة، إذ لا يزال الناس يستهلكون سلعا كانت البشرية تستهلكها منذ آلاف السنين. والجريدة وكذلك الكتاب هما من صنف السلع، وليسا من طرز الآلات، ومن ثم فهما باقيان معنا سنين طويلة.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة