قد يفاجأ البعض إذا ما قلت إن معظم مشكلات مصر الحالية هى مشكلات ثقافية بامتياز، ولعل أهم هذه المشكلات هى العشوائية التى أساءت لمصر وتاريخها أكثر مما أساء إليها كل أعدائها على مر التاريخ، فهى المتسببة فى كوارث انهيار المشروعات الخدمية، وهى المتسببة فى الكثافة السكانية العالية للعديد من المناطق الشعبية، وهى المتسببة فى أزمات المرور المتلاحقة، وهى المتسببة فى الانحلال الأخلاقى والانفلات المجتمعى الذى نعيشه، وهى أيضا المسؤولة عن جزء كبير من البطالة، وذلك لتكدس الأيدى العاملة فى مناطق محدودة، وندرتها فى مناطق أخرى، والعشوائية من وجهة نظرى هى نقيض المدنية، لأن المدنية تعنى فى الأساس نمط حياة قائما على التخطيط والمساواة وسيادة القانون، والعشوائية هى تلك الكيانات التى تفتقد التخطيط، وتنفلت من بين أيدى الدولة، فلا تتمكن من تطبيق المساواة بين أفرادها، وبالتالى يسودها العرف عوضا عن القانون.
إذن.. العشوائية هى المصيبة، والمدنية هى الحل، ولا يتخيل أحد أننى أقصد بالعشوائية تلك المناطق الشعبية التى نمت وتوحشت على أطراف القاهرة والجيزة فحسب، فقد امتدت تلك العشوائية إلى الأحياء التى يسمونها «راقية» أيضا، كما امتدت إلى مدننا الجديدة، وليس هناك معنى للتكدس المرورى فى مناطق مثل المهندسين ومدينة نصر، سوى أن تلك المناطق أسست على منهج عشوائى، لم يراع فيه قدرة هذه المناطق على الاستيعاب، ومقدرتها على الوفاء بالخدمات الأساسية لقاطنيها أو مرتاديها، وإذا ما أمعن أحد النظر إلى عمق هذه المشكلة وفداحتها، فسيرى أن العشوائية نمط ثقافى دخيل ساد فى مصر منذ ما يقرب من أربعين عاما، وبدأ هذا النمط فى التوغل أثناء حكم مبارك، ثم توحش واستشرى فيما بعد، وأصبح هو النمط السائد فى مصر، ولم يجد هذا الوحش من يكبحه، لأن الدولة المصرية دخلت فى عصر من الرخاوة، وانعدام الرؤية وانطماس الهوية، فتسيد البلهاء والأغبياء، وغيب الشرفاء والأكفاء، وتحالف رأس المال الأعمى مع السلطة الفاسدة، فلم يصبح للتخطيط ضرورة، لأنه يحد من جشعهم ونهمهم.
الخلاصة أن هناك حالة من الردة الحضارية عاشتها مصر فى العقود الماضية، واشتدت هذه الردة مع التغيير المجتمعى غير الطبيعى الذى حدث فى مصر بعد رجوع العمالة المصرية من دول الخليج بأموال طائلة، وثقافة متواضعة، فوجدوا دولة بلا عقل، فسرنا إلى المجهول، وبدلا من أن تسعى الدولة إلى تمدين الريف، سمحت بوقاحة أن تريف المدن، لدرجة أن هناك أحياء كاملة فى القاهرة لا تفرق بينها وأفقر قرى الصعيد المحرومة من الخدمات والإمكانيات، والسبب فى كل هذا هو أن هناك فئة حاكمة جاهلة لم تستبشع القبح، ولم تر فى انتشاره أذى، فباتت سكنى القبور عادية، وبات انهيار الخدمات الأساسية عاديا، ما فتح الباب أمام مرتزقة الأديان للإتجار فى البشر باستغلال حاجتهم للرعاية الاجتماعية، فصرنا إلى هذا المشهد العبثى الفوضوى.
الثقافة إذن هى الحل، والعشوائية هى المشكلة، وإنى لأدعوك إلى اختيار أى حى من أحياء مصر، ولتتخيل أن هذا الحى مساحة واسعة من الأرض التى لم يبدأ فيها العمران بعد، ثم ابدأ فى تخطيط هذا الحى وتقسيمه وتحديد منشآته الخدمية والثقافية، لتتأكد من أن الدولة لم تفكر أبدا فى التخطيط لإنشاء أى من أحيائها، وسنجرى غدا تجربة عملية للتدليل على هذا الأمر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة