فَوْرَ أن قرأت تصريحات الدكتور حسن البرنس عن أرباح الهيئة العربية للتصنيع؛ كتبت مقالاً ساخنًا هاجمت فيه رئيسها السابق الفريق حمدى وهيبة، وكيف يجرؤ على أن يعرض على الرئيس مرسى رشوة مقنعة، عبارة عن 10% من أرباح الهيئة، وهل تصور أن الرئيس سيفرح وسيقول له: "عفارم عليك"، ويمد له الخدمة مادام يدفع المعلوم، ولكنه فوجئ عندما سأله الرئيس "هل أنا موظف فى الهيئة؟"، فدافع عن نفسه بإهالة التراب فوق رأسه وفوق رأس الرئيس السابق، مردِّدًا العبارة التاريخية غير الخالدة نفسها: "ده نظام الهيئة من أيام مبارك"!
كتبت ذلك استنادًا للمعلومات الخطيرة التى كتبها البرنس على صفحته فى "تويتر"، وتصورت أن بعض القراء سيطرحون بعض الانتقادات التقليدية، مثل: "أليس هذا هو نظام مبارك الذى كنتم تدافعون عنه؟".. والإجابة بالقطع: لا.. وليُبتر أى قلم يكتب دفاعًا عن فساد أو فاسدين، وأن الأجهزة الرقابية التى لها ذراع طويلة تحت جلد النظام كانت عاجزة عن اختراق معظم القضايا التى كُشف عنها النقاب بعد 25 يناير، وظل الفساد محصورًا فى عالمه السرى، يديره حفنة من الوزراء والمسئولين ورجال الأعمال بعضهم فى طرة الآن، وبعضهم مازال حرًّا طليقًا، وليس ادعاء للبطولة بأثر رجعى أن أقول: إننى كنت أحد الذين هاجموا الخلطة الفاسدة للسلطة والثروة فى عهد مبارك، بعشرات المقالات التى يمكن الرجوع إليها فى الأرشيف.
وتساءلت بناءً على ما كتبه البرنس: هل مازال هناك مسئولون من أهل الكهف لم يعرفوا بعد أن النظام قد تغير، فتصور رئيس هيئة التصنيع أن مبارك مازال فى قصره وينتظر منحة الهيئة الميمونة التى يحصل عليها مثل الموظفين، فذهب يغرى الرئيس الجديد مرسى بمنحته، ويغدق عليه "كومين" 10% واكتفى لنفسه بـ "كوم واحد" 5%، أما باقى العاملين فكفاية عليهم 1%؟ إلا أن الرئيس مرسى قال لـ "وهيبة" إن نسبته - أيضًا - كبيرة عليه، وأعقب ذلك بقرار الإقالة الذى أطاح به من الهيئة وأيقظه من سُبات أهل الكهف، فعاد يسأل نفسه: أين مبارك الآن؟ وأين نظامه حتى أتمسك باللوائح الفاسدة التى منحته ما لا يستحق؟
ترددت فى نشر المقال - والحمد لله - رغم أن البرنس يكتب بثقة لا يمكن أن تكون غير الحقيقة، ولا يمكن أن يكذب لأنه ينقل معلومات ولا يقول رأيًا، ويوحى بأن تصريحاته إما مباشرة عن الرئيس مرسى أو من مصادر شديدة القرب من مؤسسة الرئاسة.. وقبل نشر المقال فوجئت برد الفريق وهيبة الذى يصف فيه كلام البرنس بأنه "محض افتراء، وعار تمامًا عن الصحة، وأن مبارك لم يتقاضَ مليمًا واحدًا من الهيئة، وأن الميزانية التى يتحدث عنها لم تُعرض حتى الآن على الرئيس مرسى لاعتمادها".. ووجدت نفسى فى أشد الحيرة، أَأُصدق "البرنس" أم "وهيبة"، وكلاهما يكشف أسرارًا ويدلى بمعلومات عكس الآخر، وينقل ما دار فى غرف الرئيس المغلقة بعكس ما ينقله الآخر؟
ولأن الحقيقة لا تقبل القسمة على اثنين، فأحدهما فقط هو صاحب الرواية الصحيحة، ولا يملك الصحفى ولا القارئ جهازًا لكشف الكذب، ولكن سيكون حكمه تبعًا للميول والأهواء الشخصية، على طريقة المثل الذى يقول "حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط"، وهكذا أصبحت المعلومات والأخبار التى نتعاطاها معظم الوقت "زلط" و"غلط"، وكأن الحقيقة طفلة صغيرة ابتلعتها أمواج عاتية فى بحر ليس له شطآن، وتحتاج لسباح ماهر يقف على الشاطئ ويرفع رايته الحمراء ليحذر الجمهور من الغرق.
أريد أن أقول: إن وسائل الإعلام لن ينصلح حالها بإصدار "قانون منع الكذب"، الذى يتحمس له وزير العدل، بل بتوقف المجتمع نفسه عن الكذب، ولأنها فى كثير من الأحيان تكون مثل ناقل الكفر، والحل الصحيح فى هذه الحالة هو فتح الصفحات والبرامج لمختلف الآراء والاتجاهات لتنقية المعلومات وتصحيحها أولاً بأول، وإتاحة الفرصة كاملة للرد والتعقيب، وليس الجرى وراء الإثارة والتحريض والفبركة، ولن تستطيع الأكاذيب أن تصمد طويلاً إذا وجدت من يتصدى لها ويكشف للناس حقيقتها، خصوصًا أن البلاد فى حالة سيولة فى كل شىء، وتحتاج إلى الصبر وطول البال، وليس القهر والقيود.
ما حدث بين "البرنس" و"وهيبة" يتكرر كل يوم، بل كل ساعة، ويقع الناس فى دوامة الشك والبلبلة حتى فقدوا الثقة فيما يشاهدون وما يسمعون وما يقرأون.. ومن الظلم البيِّن أن نعلق هذه المشكلة الخطيرة على شماعة الإعلام وحده.
واكتملت فصول تصريحات "البرنس" بتكذيب قاطع على لسان الرئيس الجديد للهيئة، الفريق عبد العزيز سيف الدين، بأن الميزانية ليس فيها توزيع أى نسب للأرباح على رئيس الجمهورية، كما أنها لم تُعرض من الأساس على الرئيس لاعتمادها.. ولزم البرنس الصمت دون أن يُكذِّبَ ما ذكره فى تغريدته، وفى اعتقادى أنه سيفقد مساحة الثقة والمصداقية التى يتمتع بها استنادًا إلى أنه قريب من مصادر صنع القرار.
ويستحق الإشادة والثناء الدكتور ياسر على المتحدث الرسمى باسم رئاسة الجمهورية، الذى قال عبارة جامعة مانعة تقطع الشك باليقين، وتمنع أى تلميحات أو إيحاءات بالقرب من الرئاسة ودس تسريبات قد تنسب إليها، وأكد بوضوح: "لا يعبر عن رأى الرئاسة إلا الرئيس نفسه أو المتحدث الرسمى، ويُسأل عن ذلك صاحب التصريح".. و"ياريت" يتحلى المسئولون بهذه الشفافية، لإعادة وسائل الإعلام من جديد إلى المصداقية، دون أن تكون هناك حاجة لإصدار قانون "منع الكذب".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة