فى أزمنة التحولات الهائلة، يجد معظم خلق الله أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر.. وبدلاً من الانتحار أو الاكتئاب، قرر "باسط" أن يقفز صوب المجهول، لعله يحظى بفرصة (فى موسم توزيع الغنائم)، لعلها تحميه من إخطبوط الحزن الذى يحاصره بعد يأسه من الكتابة عما يراه البعض أحلاماً عادية ومشروعة بالحياة، مجرد حياة بسيطة يكبر فيها الأطفال مطمئنين ليسوا مضطرين إلى السرقة أو التسول، ولا يسود لديهم شعور بالاغتراب، ويموت فيها الشيوخ بهدوء وسلام، وتخضر فيها الحقول لتمنح الجميع خيراتها.. وتشرق شمس الله على الكافة.. بدءاً بالكفار منهم ثم العُصاة، وبالطبع تسطع فى قلوب المؤمنين، كما يفيض النيل ـ هذا النهر المقدس ـ بمائه على العطشى، بغض النظر عن انتماءاتهم أيًّا كانت.
فى هذه اللحظة الفارقة من حياته الغرائبية بدا "باسط" مسكوناً بحالة شجنٍ، قبل أن يُفكر فى عرض نفسه للبيع أو حتى للإيجار، فهو يمتلك مؤهلات جيدة، تجد سوقاً رائجة هذه الأيام، (زمن الغنائم أذكركم)، خاصة فى ظل تنامى "بيزنس الميديا" بشكل واسع، بعد أن أصبحت الصحف أكثر من القراء، والفضائيات أكثر من المشاهدين.
ولأن "باسط" ليس من هواة المقدمات الطويلة المملة، لهذا سيتحدث عن مواهبه مباشرة، فهو يمتلك قدرات هائلة على التحليل والتحوير والتأويل والتبرير والتنظير، ويتمتع بكفاءةٌ نادرة فى المناظرات والسجالات حتى الملاسنات، يبدو صلبٌاً لكن دون قسوة، ومرناً دون استرخاء، يجيد تقدير المواقف، فيعرف اللحظة المناسبة التى يؤكد فيها بطريقة مسرحية مؤثرة ترفعٌه عن "دائرة المهاترات"، مع أنه يجيدها إذا اقتضى الأمر ذلك.
كما يتقن "باسط" كافة أدوات البلاغة ويملك ناصية اللغة ومفرداتها، من البديع والبيان والسجعٍ والجناسٍ والطباق، لكنه لا يكتب الشعرَ ولا الخواطر، فهذه بضاعة لا سوق لها الآن، لهذا قرر أن يكون فظٌاً غليظ القلب إذا جدّ الجدّ، ومن هنا لا يكف عن الإدلاء بتصريحات بأنه لا يخشى فى الدينا سوى ثلاثة: الله تعالى، وابنته الوحيدة وميليشيات الإخوان، والرجل على استعدادٍ لتجاوز الأولى انطلاقاً من إيمانه الراسخ بأن الله غفور رحيمٌ، كما يمكنه أن يتجاوز عن الثانية إذا تمكن من رشوة ابنته بفستان أو حتى قطعة "اكسسوار" صينية.
أما الثالثة فيدعو الله تعالى شرها، فلا قبل لصاحبنا بالإرهاب والإرهابيين، فهو منبوذ منهم بالسليقة، لكن مع ذلك فهو يتمتع بمرونة تؤهله للحوار معهم أحيانًا، انطلاقاً من قناعته الراسخة بالتعاون فيما قد نتفق عليه، والتسامح فيما سنختلف بشأنه.. وما أكثره.
لا يفوتنا أيضاً أن "باسط" رجل متحضر وذو توجهات مستنيرة يحكمه فكرٍ براجماتى مرن، وهو على درجةٍ رفيعة من الثقافة، وتمكن من تحصيل قدرِ هائلٍ من العلوم والمعارف، فقرأ التلمود والتوراة والأناجيل الأربعة، والقرآن الكريم، كما درس النظم السياسية والنظريات الفلسفية والاجتماعية من اليونانية والرومانية حتى الماركسية والوجودية والبنيوية والحداثة وما بعدها، مروراً بالفلسفات الشرقية كالزرادشتية والكونفوشيوسية والبوذية، ولم يدع حتى نظرية أبو حمزة المصرى وفتاوى الفضائيات، ودواوين الشعر المنسوبة لشيخات الخليج وأميراته، ناهيك عن روايات الأخ قائد أول وآخر جماهيرية فى التاريخ، الذى انتهت حكايته الكوميدية فى إحدى "مواسير المجارى"، وهى للأسف نهاية لا تليق بملك ملوك أفريقيا، لكن ما عسانا أن نفعل مع الثورات والثوار!
وبالطبع لا ينسى "باسط" النظريات القومية العروبية بدءا من تراث البعث بتطبيقاته الشامية والعراقية، وصولاً إلى الناصرية وفق حواديت العم هيكل واجتهادات الراحل عصمت سيف الدولة ونجله الكريم السائر على الدرب.
فضلا عن كل ما سبق وأوضحه "باسط" فهو على الصعيد الشخصى مدرب على فنون الإقناع والتأثير والبرمجة اللغوية، ولديه تأصيل تاريخى لهذه الخبرات من مدارس المناطقة والهراطقة وفلاسفة المعتزلة، حتى مدرسة التهديد والوعيد وفلسفة العصا والجزرة. ناهيك عن تبحره فى علم النفس والطاقة الحيوية وعلم الإحصاء وفبركة الاقتراعات والاستفتاءات على صفحات "الويب".
بالإضافةً لكل تلك الخبرات فإن "باسط" متحدثٌ لبقٌ سريع البديهة، وله حضورٍ طاغٍ، ووجه "فوتوجينى"، وصوت جهورى مؤثر يوحى بالجدية والفخامة، ومظهر أنيقٍ جذاب ـ خاصةً حين يرتدى بزّةً رسمية ـ مما يؤهله للعمل على مدار ساعات البث كمحللٍ سياسيى، أو مناظرٍ فى أكثر المحطات الفضائية انتشاراً إذا اقتضت طبيعة العمل ذلك فى الأحداث الجسام والحروب الأهلية والتحولات الدرامية التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط التعسة، باختصار.. يبحث "باسط" فى هذه الأيام الطيبة المباركة عن جهةٍ لاستثمار مؤهلاته، ولا يعنيه أن تكون خليجية أو أمريكية أو أوروبية أو حتى فارسية، كما لا يهم أن تكون سلفية أو شيعية، ولا مانع لديه إذا كانت استخباراتية أو ذات صلة باللجانٍ الثورية والأحزاب الأممية، على ألا تكون إرهابية، فهذه لا طاقةً لصاحبنا "باسط" بشئونها، كما أن الإخوان الإرهابيين لن يقبلوا التعامل معه، رغم أنه أثبتّ براعةً لا يستهان بها فى حقل صناعة الرأى العام المحلى والإقليمى، وربما الدولى أيضاً لو أتيحت له فرصة عبور بوابة العالمية.. كما حدث لصاحبه الروائى، الذى أمسى بين عشية وضحاها "أيقونة الثورة".. ورحم الله أيام "قهوة فيينا"، وشارع قصر العينى، ومطعم "الجريون" وغيره من أوكار "وسط البلد".. وهى الأيام كما عاينتها دولُ، كما قال المتنبى.
والله المستعان
Nabil@elaph.com
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة