أحاول منذ أيام الكتابة عن محمد البساطى، رحمة الله عليه، كنت أريد أن أرسم تضاريس وجهه الصبوح، وأؤكد على النور الداخلى الذى ارتفع به إلى المنزلة التى يعرفها محبوه الكثار، كنت أحاول استعادة نبرات صوته الذى ظل محتفظا بريح قريته الجمالية فى المنزلة، والتى تركها منذ ستين عاما.
ذهب البساطى وأخذ ابتسامته وشهامته معه، وترك حكاياته الشجية التى تشير إلى مصر أخرى لن يفهمها المستشرقون ومثقفو الحظيرة ومنظرو الفضائيات، الذين لم يشعروا بالفقد لأن رجلا نبيلا صادقا موهوبا ترك الدنيا مرفوع الرأس، ولم يبتذل نفسه وعاش فنانا معارضا بعيدا عن السياسيين.
هو اختار أن يكون صوتا للمهمشين والعجائز والمساجين والفرادى الذين يحتلون سطوح المدينة، لم تؤثر فيه نبال فقراء الموهبة الذين تربصوا به، ولم ينجح الأستادار وزير ثقافة مبارك هو وخشداشية المماليك من موظفيه فى حصاره، لأن البساطى كان كريم النفس والروح، وكان بسيطا إلى درجة أربكتهم وجعلتهم يشعرون أنهم أمام معنى كبير فى الثقافة المصرية القوية والمتجددة، التى لم تتسول رضا النظام السابق من أجل الجوائز والسفر والمناصب والمزايا الجانبية.
كنت أحاول الكتابة عن شخصيات البساطى التى تبحث عن الظل خلف جدران متهالكة فى قرى متناثرة كالندوب، عن أحلامهم البسيطة المشروعة السامية، عن إصرارهم المدهش على مواصلة الحياة والزواج والإنجاب وتعمير الأرض، كنت أريد أن أكتب عن عمى وصديقى محمد البساطى الذى أفرح عندما ألتقيه أو أسمع صوته، والذى سافرت معه كثيرا وسهرت ومشيت وتظاهرت معه طوال ربع قرن، وكلما شرعت فى الكتابة تذكرت تعليقاته وقفشاته ومشيته، وتذكرت صحبته التى لم يتبق منها إلا القليل، فأتوقف عن الكتابة، واعتقدت هذا الأسبوع أن الأولمبياد «البطولة الوحيدة التى كان يتابعها»، أو هجوم المرشد على المسلسلات، أو الوزارة الشرعية المرتقبة، أو استهداف المرضى فى المستشفيات، أو التغييرات الصحفية، موضوعات ستبعدنى عن تأبين أصدقائى، وخصوصا بعد إعلان رئيسنا المفدى عن تفعيل مبادرة «وطن نظيف»، وعندما شرعت فوجئت بخبر رحيل حلمى سالم، الشاعر والأخ الكبير، والذى جمعتنى معه هو الآخر الأيام والليالى والشِعر والغناء والغضب، والذى تعرض مثل عمه وعمى البساطى لبطش حراس الماضى، خذلنى حلمى مرة أخرى ورحل، وجعل الكتابة أكثر صعوبة. قبل أسابيع كتبت عنه فى هذا المكان، وهو قال لى بعدها إنه مستمر حتى تتحقق أهداف الثورة، وحتى يستطعم الناس الشِعر الجديد، وحتى تتحرر اللغة العربية العبقرية من الكهنة.
حلمى سالم الذى عملت معه وسكنت إلى جواره ولمست رقته وعذوبته ونبله، وشاهدته وهو يخوض معارك الحرية والشِعر ومناهضة التطبيع مع العدو، وكأنه فى طريقه إلى هدف مقدس، رحل هو الآخر، أثناء تفعيل مبادرة «وطن نظيف»، وفى الوقت الذى تتم فيه كتابة دستور يسعى صانعوه إلى وضع «الكلابشات».. فى معصمى الحرية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة