نبيل شرف الدين

"كل شىء على ما يرام"

السبت، 26 مايو 2012 06:36 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كشىء لا يشبه إلا نفسه.. كخط مستقيم أو مسطرة.. قرر "صاحبكم" فى لحظة مباغتة ارتكاب كل حماقاته المؤجلة دفعة واحدة.. كمدينة مكتظة بأوهام سكانها.. مدينة لا مكان فيها لخلوة متعب يريد البكاء على نفسه ثم الآخرين.

مثل فتاة يتدلى عمرها أمامها، وأقصى ما تستطيع فعله أن تكتب رسائل بأحبار سرية، وأفكار سرية، لأشخاص لا وجود لهم إلا فى مخيلتها من اجتياز الخطوط الفاشلة التى رسمها صناع التاريخ ومصممو الفضائل الجائرة.. كمن يربى ظله ليصير وطنًا يعيش فيه.

فى تلك المسافة "الكونية والوجودية" الضئيلة بين الموت والحياة المبتسرة.. تلك السنتيمترات القليلة التى تفصل بين حبل المشنقة ورقبة المحكوم عليه بالإعدام.. قبيل أن يشد "العشماوى" أو "الجلاد" الرافعة لينتهى الأمر، ويكون قضاء الله وقدره.

فى هذه المسافة المتوترة الحادة وقف "صاحبكم" مبتسمًا بثقة وسخرية من جميع الأشياء والأشباه والأزلام والأوهام.. مؤكدًا لنفسه ولجميع المتفرجين ممن يعشقون الإثارة أن "كل شىء على ما يرام".

حتى فى الطرقات التى اعتاد "صاحبكم" التسكع فى دروبها.. استوقفه سؤال مباغت: ماذا يعنى الوطن؟

هل هو النهر والوادى الضيق الذى التهمته غابات الأسمنت، والمقابر والأهرامات التى لا حصر لها.. هل هو الثورة التى اختطفتها عصابات التأسلم السياسى، وراحت تتلمظ ترقبًا للانقضاض على لحظة طالما انتظرتها منذ زهاء ثمانية عقود، لإقامة ما يسمونه "الخلافة الإسلامية"، بينما ترتعد فرائص الليبراليين واليساريين والأقباط وغيرهم من هذا المستقبل الغامض المجهول، حين يُسقط أرباب السجون مراراتهم على الجميع، ومع ذلك لا يعرف "صاحبكم" من أين وكيف واتته كل هذه الثقة بأن: "كل شىء على ما يرام".

فى مقار العمل ينظر "صاحبكم" لزميل من أبناء جيله المحبطين حتى النخاع، ويشعر بحجم الأثقال الملقاة على عاتقه.. يهمهم زميل العمر ورفيق الخيبات قائلاً: لقد "انحشرنا" بين أسوأ جيلين، جيل سابق أنانى ظل متربعًا على مقاعده حتى شاخ وشاخت معهم الدولة، ولم يتزعزع إلا بثورة أتت على الأخضر واليابس ومرغت به الأرض وألقت بكل رموزه خلف القضبان ـ غير مأسوف عليهم ـ تنتظرهم سنوات باهتة الملامح، وربما يقضون ما تبقى لهم من أيام فى الزنازين الكئيبة.. الباردة شتاء.. الخانقة صيفًا.

ويواصل صديق العمر ورفيق المرارات قائلاً: "انحشرنا" مرة أخرى مع جيل لاحق، يعانى أزمة فى بناء الضمير، سيكوباتى للغاية، لا يخجل من وصفه بتعبير "العيال السيس.. اللى حاكموا الرئيس"، والذين يريدون تحقيق كل أحلامه بكبسة زر.. الآن.. والآن دونما أى تأخير أو تفكير.. ووقتها لم يجد "صاحبكم" ما يرد به على رفيق دربه سوى عبارة واحدة، لا يعرف كيف باغتته وهى أن "كل شىء على ما يرام".

حتى فى منازلنا التى أصبحت بالنسبة لنا مجرد فنادق متواضعة علينا أن نقبلها كما هى دون أدنى شكوى، ليس هذا فحسب، بل ينبغى أن نستجدى عطف الأبناء والزوجات، وأن نثبت للجميع طيلة الوقت أننا أبرياء من اتهامات من كل نوع، وأن نتقبل بروح رياضية فكرة أننا مجرد "كريدت كارد" لا يمكن أن ينفد رصيده أبدًا.. تلاحقنا فواتير من كل نوع.. وعلينا أن ندفع بصمت دونما أى مناقشة.. بإذعان كامل.. ونطوى أحزاننا ونلملم مراراتنا بصمت لنواصل العمل فى طواحين لا ترحم، ومع ذلك يدفن "صاحبكم" وجهه فى السرير، ويكفكف دمعة سالت رغمًا عنه، ويردد فى صمت أن "كل شىء على ما يرام"، وكل البيوت مغلقة على أكثر من هذا، وعلينا الرضا بصمت.

فى المستشفى.. فى النادى.. فى المقهى.. فى شوارع القاهرة المكدسة بالبشر من كل نوع وملة.. وحتى عبر شاشات الفضائيات المملة.. فى كل مكان باختصار يشعر "صاحبكم" بغربة موحشة.. يلاحقه شعور عميق بالعار، وأنه إما ولد فى الزمان الخطأ أو المكان الخطأ.

يدرك "صاحبكم" بكل يقين أنه مضطر على مدار الساعة لنفاق الملايين من أبناء جلدته المغيبين وأصحاب المآرب.. لا لشىء إلا لسبب وحيد هو أن يتركوك لحال سبيلك دونما تكفير أو إقصاء أو شتائم وسخائم.

فى كل زمان، ربما كانت أربعينيات وثلاثينيات القرن الماضى هى الوقت المناسب للعيش فى أمان ودعة.. وربما بعد قرون من الآن حين يدرك الناس فداحة خياراتهم ويدفعون ثمنًا باهظًا للإطاحة بـ "مشايخ السياسة"، إذا استطاعوا لذلك سبيلاً، لكن المرء يعود ويتساءل بسذاجة أحيانًا: لماذا "انحشرنا" بين هذين الجيلين، ولماذا لا تتسع لنا حتى بيوتنا وغرف نومنا وسياراتنا وطرقنا؟ ولماذا ينبغى أن نحمل كل هذه الأثقال.. ويكلل جباهنا تاج الشوك.. ونتألم بصمت، فليس من حقنا حتى مجرد البكاء.

بالطبع فإن الإجابة عن كل هذه الأسئلة الكونية صعبة بالتأكيد.. ولا يجد "صاحبكم" مفرًّا من القول إن كل شىء على ما يرام ليريح رأسه الساخنة.. المتورمة بفعل الضغوط فى كل مكان.

صدقونى ـ لو أحسنتم بى الظن ـ لم أجد جوابًا أكثر بلاغة واختزالاً من أن أرد بكل هذه "المايورامات"، جمع "ما يرام" لمن لا تسعفه قريحته اللغوية، فرغم كل ما يجرى من عبث شرير.. وما ينتظرنا من صخب ومزايدات سخيفة على يد "الفاشيين الجدد" فلا مفر من الصراخ بكل عفوية وصدق.. فى الشوارع.. عبر الشاشات لمن استطاع إليها سبيلاً.. فى الساحات والبيوت.. بأن كل شىء على ما يرام.

وأخيرًا هاهو "صاحبكم" يبدو كأنه "صائد الفراشات".. أو الشاهد الوحيد على انقراض السلالات الرحيمة التى انقرضت أو اندثرت، يضع العالم تحت وسادته وينام.. يمطر حيثما يشاء.. ويحاصر المدن بلهيبه حين يرغب.. أحشاؤه مقبرة السفن الضالة.. وشرايينه طرق وعرة لا نهاية لها.

حين يضحك "صاحبكم" تورق الغابات.. وحين يبكى تخرج الأرض من جلدها.. إنه الممكن المستحيل.. المتاح المحال.. لأنه آخر الكائنات الحية وأول من مات منها.. يرى نفسه أحيانًا مثل "حارس المقابر العتيقة".. أو كاتم السر الأزلية وفاضحها حين تلعب الأوهام برأسه.

كما يرى أنه أيضًا يشبه الأرض التى تركها أهلها للطغاة.. ويشبه البيوت التى صارت سجنًا اختياريًّا.. والبلاد التى ستباح بعد قليل وتباع للمزايدين.. أنه الخيبة والحسرة على ما بقى من مفهوم الأوطان التى صارت مستباحة للمتردية والنطيحة وما أكل السبع، كما يقول الأقدمون فى تراث العروبة المثقل بالخيبات.

أخيرًا يقف "صاحبكم" على قدم واحدة" ويخطب فى جمهور خرافى لا وجود له قائلاً: اسمعوا أيها الخونة المستترون بالقرابين الوطنية: أنا الراحل نحو الجهات الوليدة لأسميها وأختنها، أنا حادى القافلة العرجاء، وُلِد حائرًا ببندقية محشوة بالرصاص، على من يطلق النار؟ على الأشجار الواقفة على قدم واحدة، أم على البيوت المثقوبة برصاص النميمة، أم على ما بقى من الوقت بعقاربه وأرقامه؟

أنا من بقى ليروى ومن سرقوا فمه وتركوه يئن وحيدًا بأصوات مؤلمة... قليلاً من الإنصات أيها الأوغاد سيكون كافيًا لتسمعوها، فقط أنصتوا.. سأقول ما أريد وأمضى مسرعًا إلى حيث لا شىء إلا أنا.. أكذب الكذبة وأصدقها.

ويواصل "صاحبكم" المسكون بكل مرارات العمر قائلاً: اسمعوا أيها الأوغاد المقدسون بالزيف: أنا الذى ولدت بعد الأوان، فلم ينتبه إلى المارة، ولم يخبرنى أحد ماذا أفعل بملامحى، ولغتى وجسدى، وتلك الغرائز النابحة فى كيانى، لهذا كبرت بسرعة غير مألوفة، وعشت حائرًا بما لدى.. أحملها كأشياء غير لازمة.. حمولة زائدة.

لم يشتر لى أبى دفاتر وأقلامًا ملونة.. تركنى أحفر أسمائى على الصخور الناتئة وجذوع الأشجار، وعلى جلود الزواحف التى كنت أبيعها لمدرسى العلوم الطبيعية.
لم يعلمنى إخوتى الرسم.. تركونى منحازًا للأشكال على حقيقتها، ولذلك أول صفر حصلت عليه كان فى مادة الفنون، لأنى رفضت تلوين الشجرة بالأخضر، بينما كانت الدنيا سوداء فى الخارج.

لم يعلمنى أحد الهتاف باسم أحد، ولذلك عندما زار بلدتنا النائية الجنرال الأول والأخير بقيت صامتًا، أراقب بدهشة الحناجر الهاتفة الجائعة وبكيت من الخوف.

لم يعلمنى أحد على ماذا أطلق النار من بندقيتى التى ورثتها، لذلك كان ظلى أول شىء أقتله وبرصاصة واحدة فى الرأس..

لم يعلمنى الرجال الحب المناسب.. ولذلك كانت أول امرأة أحببتها تكبرنى بعشرين سنة، وآخر واحدة تصغرنى بثلاثين خطوة.

لم أتعلم الموت.. وها أنا على قيد الحياة امتهن حفر القبور، وتسجيل أسماء الموتى فى السجلات الرسمية.. ثابت، أراوح فى اللحظة كشاهد على نهاية الكائنات وبدايتها.

لم أتعلم الوقت، لذلك فاتتنى كل القطارات والمواعيد والحصص المدرسية، وحين وصلت كان الأوغاد ـ أمثالكم ـ تقاسموا البلاد تاركين لى على الحدود بوابة كافية لذهاب لا رجعة فيه.

لم أتعلم من الآخرين سوى الجلوس.. وانتظار الغيم العابر والحروب وهجرة الطيور.. وارتفاع أسعار الأعضاء البشرية وتداعى الأمم على الأمم.. واقتراب الكارثة رويدًا رويدًا.. ببطء القتيل الراغب فى تغيير نهايته دون جدوى.

والله المستعان.

Nabil@elaph.com









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة