مع قيام ثوة يناير المجيدة شعر المصريون جميعا بالفخر، وكان المصريون فى الخارج أشد فخرا، وأيقن كل منهم أن عهد الخضوع وضياع الحقوق انتهى إلى الأبد، وحان الوقت ليكون للمصريين فى الخارج شأن ورفعة عبر دولة قوية تحمى أبناءها، وتدافع عن حقوقهم وتصون كرامتهم، وظن المصريون فى الخارج أنهم لم يعودوا مصدراً للعملة الصعبة فقط، بل مرآة مصر التى يجب الحفاظ عليها والدفاع عنها، وأن وقت العودة إلى الوطن قد حان، وطوفان الهجرة والتسول أمام سفارات العالم فى القاهرة؛ للبحث عن عقد عمل قد أغلق، وأن الوطن فتح أبوابه لاستقبال أبنائه، وشعر المصريون بكيانهم، وظنوا أنهم تحرروا من سطوة الاستبداد، وظلم النظام، وسياسية الاستعباد والاستبعاد التى كان يعانى منها عدد كبير من العاملين فى الخارج.
حالة الزهو والفخر وعلو الرأس التى شعر بها المصريون فى الداخل والخارج، والتى دفعت الكثير من كتاب الرأى فى العديد من الصحف العربية، وخاصة الخليجية، أن تصف ماحدث بأنه حالة من الغرور، وتضخم الذات أصابت المصريين، ولكن هذه الحالة لم تستمر طويلاً، فسرعان ما أتت رياح التيارات السياسية وفشل الحكومة والمجلس العسكرى فى إدارة البلاد، بما لا يشتهى المصريون فى الداخل والخارج، فبدأ الإحساس بالفخر يتقزم، والأمل يتبخر وعادت الطوابير أمام السفارات فى القاهرة من جديد؛ للبحث عن تأشيرة سفر للهروب من مصر كما كان الحال أيام النظام البائد، ولكن الغريب فى الأمر أن الباحثين عن السفر والغارقين فى البحار الذين قدمهم النظام البائد طعاماً للحيتان قبل الثورة، كان معظمهم من الحالمين بالثراء، ثم العودة إلى الوطن، حيث كان الفقر هو السبب الرئيسى للهجرة والهروب من جحيم النظام فى ظل سرقة مقدرات الوطن، ولكن دوافع الهجرة بعد الثورة تغيرت أسبابها، وتجاوزت حدود الفقراء، وانضم إليها شريحة كبيرة من الميسورين الذين يحاولون الهروب من مصر المجهولة الملبدة بالمواقف المثيرة والآراء العجيبة والتيارات السياسية الطامعة فى الاستيلاء على البلاد.
التقرير الصحفى الذى نشرته الوكالة الألمانية مؤخرا، يشير إلى أن مصر عادت وطناً طارداً لأبنائها، وأن حلم الهجرة أصبح يداعب أحلام الكثير من المصريين من جديد، بعد أن سقط من حساباتهم خلال الفترة الماضية، فمن المسئول عن سرقة أحلام المصريين وطموحاتهم فى العيش الكريم داخل وطنهم؟، ومن المسؤول عن استمرار إهدار كرامة المصريين فى الخارج؟، وما سر صمت الحكومة المريب تجاه قضية أحمد الجيزاوى المعتقل فى السعودية، والتى ليست سوى مثل بسيط على ما يعانى منه الكثير من المصريين فى الخارج، ولكن الجيزاوى كان محظوظاً أكثر من أقرانه الآخرين بنشر قضيته فى وسائل الإعلام، فى الوقت الذى يوجد فيه الكثير من الحالات المماثلة يموت أصحابها كمداً، ويموت الأبناء فى مصر بحثاً عن حل دون أن يشعر بهم المسؤولون.
ولقد تجاهلت مصر أبناءها فى الخارج طيلة عهد المخلوع، وسقطوا من حساباتها، وكان الكثير من السفراء يقومون بعمل روتينى بروتوكولى، ولا يقومون بواجبهم الحقيقى فى الكثير من الأوقات لأسباب عديدة، من بينها عدم كفاءة بعض السفراء والعاملين فى السفارات، وخاصة هؤلاء الذين يتم إيفادهم بالمحسوبية بعيدا عن الكفاءة والمهنية، وعدم معرفتهم بالدور الحقيقى المنوط القيام به، بالإضافة إلى انشغال بعض السفراء بأعمالهم ومشاريعهم الخاصة، وأن السفارة لم تكن سوى مكتب لإدارة أعمالهم وأعمال النظام البائد، بينما تركوا المصريين لمواجهة مصيرهم عند وقوع أى مشكلة صحية أو عمالية أو أمنية أو سياسية.
للأسف الحكومة المصرية الحالية تذكرت المصريين فى الخارج عندما غرقت فى بحر الديون، وفشلت فى تحقيق القفزة الاقتصادية التى كانت تتحدث عنها، وضاقت بها السبل، فلم تجد سوى جيوب المصريين فى الخارج لا نتزاع ما فيها، فتسللت إليهم لسحب أموالهم بنفس آليات النظام البائد، فأعلنت عن طرح قطع أرضى وشهادات دولارية، ونظمت حملة إعلانية فى الصحف العربية والأوروبية تؤكد فيها أن "حب مصر مش مربوط بحدود"، ولكنه مربوط بجيوب المصرين فى الخارج، للأسف لجأت الحكومة، مثل غيرها من الحكومات السابقة إلى سياسة الأخذ دون العطاء والقيام بالواجبات، فبدلاً من التحرك السريع واتخاذ خطوات فاعلة لعودة أموال مصر المنهوبة والمهربة والأراضى المستباحة، فضلت اللعب على عواطف المصريين فى الخارج لتجميع أكبر قدر من المال يساهم فى إنقاذها ويطيل عمرها. وقامت بذلك بشكل فج وغليظ، حيث حددت سعر المتر بما يصل إلى 670 دولاراً بحجة أن الأراضى مميزة، بينما باعت ملايين الأمتار للمستثمرين فى أراضٍ أكثر تميزاً بدولار واحد فقط للمتر بحجة أنه مستثمر.
أما المصرى العامل فى الخارج فيجب أن يتم استنزافه فى قطعة الأرض الموعودة وكأنها قطعة من الجنة، وليست فى الصحراء القاحلة، علما أن الحكومة تبيع للمصريين فى الداخل أراضى فى مواقع أكثر تميزاً من تلك التى تبيعها للمصريين فى الداخل بسعر لايتجاوز 600 جنيه للمتر، فلماذا تعاقب الحكومة أبناءها؟، ولماذا تصر على استنزاف أموالهم دون أن تتحرك لعودة الأموال المنهوبة والأراضى المسلوبة؟.
إن ما تفعله الحكومة، ومعها بالطبع شركائها فى المهمة المجلس العسكرى والبرلمان، يؤكد أن مصر مازالت تعيش فى جلباب مبارك وأعوانه، سواء على المستوى الإدارى والفكرى، وكذلك الاستنزافى والاستفزازى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة