كتبت منذ عدة أسابيع مقالا حول المصطلح الذى شغل الرأى العام المصرى طوال الأيام الأخيرة، وهو مصطلح الرئيس التوافقى.
والحقيقة أن هذا المصطلح وتلك الفكرة رغم خطورتها والأبعاد التى قد تكون من ورائها إلا أنها فى رأيى ليست الأخطر فى تلك المرحلة الدقيقة التى تمر بها بلادنا .
القضية الأكثر خطورة فى نظرى والتى تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها بشكل أكثر تركيزا مما يحدث الآن هى قضية المرشح العسكرى .
وحين أقول المرشح العسكرى فلست أعنى به مرشحا ذا خلفية عسكرية بالضرورة، إنما أعنى المرشح الذى يريده المجلس العسكرى .
نعم المجلس يريد مرشحا .
هل يشك أحد فى ذلك؟!
بل هل من الممكن أن يشك أحد فى ذلك؟
هل يتصور أن يترك المجلس العسكرى - الذى لا يستطيع منصف أن ينكر وجوده كجزء من النظام السابق – المجال ليأتى رئيس ثورى أو رئيس غير مهادن لهم، قد تكون أولى قراراته بعد توليه محاسبتهم على كل خطايا العام الماضى وما قبله؟
هل بعد كل الحديث عن الخروج الآمن قد يخاطر العسكر اليوم بعدم ضمان مثل هذا الخروج مع رئيس ثورى أو "حقانى"؟
وهل بعد الإرهاصات المستمرة والتلميحات المتتالية بوثيقة السلمى وغيرها من التلميحات والتصريحات التى كشفت عن رغبة العسكر فى دور فعال فى إدارة الدولة أو صلاحيات عليا فى الدستور القادم سيتنازلون عن كل ذلك ويفسحون الساحة بكل بساطة؟
وإن افترضنا جدلا أنهم تجردوا وتواضعوا وفعلوا هل أصحاب المصالح المتشابكة فى الداخل والخارج سيفعلون؟
هذه الأسئلة المنطقية تدور بخلد كل من يشرد بذهنه ليحلق به إلى يونيو المقبل ويتخيل مشهد تسليم السلطة .
ولا شك أن إجابة هذه الأسئلة ستحدد إن كنت مقتنعا أن الأسهل والأيسر أن ينأى المجلس بنفسه عن كل تلك الحسابات المعقدة التى سيجبره عليها رئيس ثورى منتخب ويرغب فى رئيس أليف "منهم وعليهم" يشعر معه بالأمان ويشعر الضاغطون فى الخارج والداخل أن الانتفاضة الشعبية (التى لن تكون حينئذ ثورة) قد مرت بسلام وبأقل خسائر على الجميع .
والمشكلة ليست فى مجرد الرغبة فى الشىء فهذا حق للجميع والمجلس العسكرى من حقه أن يتمنى من يؤمن مصالحه لكن المشكلة الحقيقية هى أن طبيعة العسكريين لن تكتفى بمجرد الأمانى وستسعى جاهدة لتفعيل تلكم الأمانى وترجمتها إلى عمل وهذا هو مكمن الخطر الحقيقى الذى أتكلم عنه.
إن المجلس العسكرى بصفته القائم بأعمال رئيس الجمهورية وطبقا لمواد الإعلان الدستورى يسيطر على أهم مفاصل وآليات الدولة، ويملك مفاتيح القوى المادية والتنفيذية والإعلامية والاستخباراتية فيها، وهذا ما يؤهله يقينا ليلعب دورا أساسيا فى المعركة القادمة .
معركة اختيار رئيس مصر .
والحقيقة أن المتابع والمدقق لحال البلاد منذ الحادى عشر من فبراير إلى يومنا هذا يلاحظ بوضوح آثار استغلال تلك الآليات للتكريس لهذا المرشح العسكرى الذى يريدون له أن يكون بطل المشهد الأخير فى فيلم الثورة المصرية .
ولهذه الآثار الكثير من الشواهد الملموسة التى لا تخفى عن عين المتابع .
ولا يظن أحد أن الأمر يحاك بسذاجة أو سطحية بحيث يلمع المرشح الذى يريدونه من الآن، فيأتى الأمر بنتيجة عكسية وإنما يحاك الأمر بشكل غير مباشر مؤداه الواضح والملموس فى جملة واحدة تكريس كراهية الثورة وتشويهها ولقد تم ذلك طوال العام الماضى وبكفاءة منقطعة النظير، إما عن طريق تشويه الثوار واتهام كثير منهم بالعمالة وإما بتجويع الناس وتهديد أمنهم، وإما بافتعال الأزمات والمشكلات الطاحنة طائفية كانت أو فئوية أو بالتلويح المستمر بحلم الاستقرار الغابر ودوران عجلة الإنتاج المنخرمة .
المهم تعددت الأساليب والنتيجة واحدة كره الكثيرون الثورة والثوار وصاروا يترحمون على العهد البائد، بل وعلى رجالاته أحيانا وبعد أن كانت بعض الاتهامات والمصطلحات محط سخرية منذ عام ونيف صارت اليوم مادة أساسية لحديث الناس وبعض البرامج والصحف شوهت كلمة الثورة، وصار الكثيرون يتحرجون من الانتساب إليها لارتباطها بكلمات العمالة والأجندات والمؤامرات، وغير ذلك مما فى القائمة المفتعلة المعلومة لدى الجميع والتى كانت منذ أشهر مادة للبرامج الكوميدية فصارت اليوم تقال حتى تحت قبة برلمان "الثورة" وعلى لسان من لم ننس بعد علاقته بالنظام السابق ومداهنته لرأسه والأدهى أن يصفق له ويدافع عنه.
هذا بخلاف نظرة قطاع من أهم قطاعات المجتمع للثورة .
القطاع العسكرى بشقيه الشرطة والجيش طبعا مع الفارق بينهما.
فمن بعد الثورة إلى اليوم ولدى شغف شديد بمتابعة ورصد رؤى القطاعات المختلفة من الشعب فى الثورة وتطور تلك الرؤى والانطباعات.
ومن القطاعات المهمة التى تابعتها بطرق مباشرة وغير مباشرة القطاع العسكرى بشقيه السابقين.
والحقيقة أنه رغم وجود نسبة لا بأس بها مؤيدة للثورة ومحبة لها فى هذا القطاع وخصوصا فى الجيش، إلا أن ما لاحظته بشكل مطرد أن جزءا كبيرا يردد نفس الرواية التى مؤداها أن هذه الثورة مؤامرة على مصر وأن المخابرات الأمريكية لعبت الدور الأكبر فيها، وأن الخلاصة التى نصل إليها فى النهاية تلميحا وتصريحا أن مصر "اتخطفت".
ولا شك عندى أن غرس تلك الفكرة هو أمر مقصود وممنهج خصوصا لما تتكرر الرواية وبحذافيرها وتفاصيلها الدقيقة وكلماتها المميزة .
والمؤسف أن هذا القطاع يمثل أهم وأخطر آليات العملية الانتخابية وطالما أن شقه الشرطى بالذات لم يهيكل إلى اليوم فسيظل وصول رئيس ثورى يستكمل مكتسبات الثورة - التى يعتبرها كثير من الباشاوات مؤامرة - أمرا غير مضمون ويحتاج لضمانه إلى جهد مضنٍ ويقظة منقطعة النظير، وعدم ركون للراحة فى هذه اللحظات التى يحين فيها انتقال تكريس الرئيس العسكرى من مرحلة الإعداد المعنوى إلى واقع عملى على الأرض .
هذا بخلاف قطاع كبار رجال الأعمال وأهل المال وهذا القطاع أيضا فى أغلبه أو كثير منه يرفضون الثورة وكثيرا من مكتسباتها، وذلك لما تأثروا به من خسائر مادية فى العام الماضى الأمر الذى سيؤدى حتما إلى فقدان المرشحين الثوريين عمقا تمويليا مهما بل وربما يحظى به مرشحو الفلول الذين يدخلون من منطلق الاستقرار والرخاء كما أسلفت.
إن كل ما سبق وغيره يؤكد على خطورة المرشح الذى سيطرح على أنه البديل لكل تلك الصور المشوهة عمدا، والذى سيقدم أنه المنقذ المستقر والمخلص العاقل الذى سيعبر بالبلاد إلى بر الأمان ليعود الرخاء والأمن وتدور عجلة الإنتاج المسكينة، والتى ظلمت كثيرا خلال العام المنصرم.
لذلك وجب على أن أحذر من الخطر الحقيقى على ثورتنا والذى أرى أن كل السبل تمهد له الآن سواء معنويا كما بينا أو ماديا على الأرض بامتلاك الآليات والسيطرة عليها وحتى قانونيا عبر المادة المشبوهة المسماة بالمادة (28)، وذلك ليكون المرشح العسكرى كما قلت آنفا بطل المشهد الأخير فى فيلم الثورة.
ألا فلينتبه الثوار ولينتبه المخلصون من كل اتجاه .
علينا أن نحرس ثورتنا حتى آخر رمق، خصوصا أننا قد اقتربنا من نهاية المضمار والجولة الفاصلة التى ستحدد فعلا.
هل كانت حقا ثورة أم شيئا آخر؟
المتحدث باسم ائتلاف الدعوة الإسلامية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد السمطي
مبروك على اليوم السابع الدكتور محمد علي يوسف
هؤلاء من نريد أن نقرأ لهم :)
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالله يعقوب
ربنا يستر
ربنا يحفظ بلاد المسلمين
عدد الردود 0
بواسطة:
حسونه
الحقيقه
مقال رائع ويعبر علي ما يدور الأن في مصر
عدد الردود 0
بواسطة:
مسلم من غير حلفان
ليس بالضروره ان يكون رايي او رايك هو الصواب
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد عبدالخالق
مكسب حقيقي لليوم السابع
نورت اليوم السابع يا دكتور محمد
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmed
رقم 4
عدد الردود 0
بواسطة:
نور اليقين
مقال جميل يادكتور.......وبداية موفقة ان شاء الله
عدد الردود 0
بواسطة:
امىرة الازهرى
لو المرشح العسكرى مش من الاخوان سينتخبه الثوار
عدد الردود 0
بواسطة:
د محمد فراج
مقال رائع لكاتب اروع
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
تحليل ممتاز جدا
تحليل ممتاز جدا