حقيقة أكدها الفلاسفة وأساتذة الاجتماع السياسى هى أن الضمانة الأساسية لازدهار الديمقراطية فى مجتمع وجود القاعدة أو الأساس الاجتماعى الذى تجسده الطبقة المتوسطة التى وصفها أرسطو بأنها تلك القاعدة التى يكون أفرادها ليسوا من الفقر بحيث تتكسر أجنحتهم، ولا من الغنى بحيث ينشبون أظافرهم.
ونحن فى بداية عهد جديد، يريد الشعب أن يتحرر فيه من نير القهر والفقر والتجهيل، يلزم ألا تستدعى الشريعة كسلاح لإجهاض أحلام الجماهير بمجتمع جديد، تتحقق فيه العدالة الاجتماعية، والحرية والديمقراطية.
الشريعة ليست هدفا فى ذاتها، ولكنها وسيلة لتحقيق مصالح العباد كما أسلفنا فى مقال سابق، كما أنها ليست منظومة عقابية تجسدها الحدود التى تأتى فى نهاية الشوط، بعد تحقيق الكفاية والاستغناء للناس، بما يحول بينهم وبين اللجوء للجريمة.
إن تصور فريق من الإسلاميين للشريعة فى جوهره قاصر عن الوصول إلى حقيقتها، إن تحقيق العدالة الاجتماعية التى تخلق الطبقة المتوسطة وترعى ظروف بقائها، لن يحققها سوى تحيزات سياسية واضحة، تتجسد فى توجهات اقتصادية تقلص الفجوة الهائلة بين الطبقات، وتحد من أثر السياسات التى تزيد الفقراء فقرا، والأغنياء غنى, إن إنشاء ديوان للزكاة، أو حث الناس على التصدق، أو مهرجانات المن والأذى التى نطالعها فى موائد الرحمن لن تضيق الفجوة بين الطبقات، ولن تنتشل الفقراء من العوذ، بل ستؤبد منظومة للتسول وبسط الأيدى بالسؤال وانتظار عطايا المحسنين، وإبقاء الناس رهائن لإرادة أى نظام سياسى بذقن كان أم بدون.
إن نفور النظام السياسى الجديد من فكرة التخطيط الاقتصادى، وعدم الاستفادة مما حققته دول كالبرازيل وفنزويلا وغيرها ممن نجحوا فى تحقيق تنمية حقيقة شرقا وغربا، وخلو البنيان الوزارى الحالى من كوادر اقتصادية، لها توجهات نحو العدالة الاجتماعية، والخلل الواضح فى تحديد أولويات السياسة الاقتصادية، والخلط بين بين السياسات والأهداف، والتماهى مع النظام الرأسمالى فى محاكاة للنظام السابق، بل وترديد نفس مقولاته كتشجيع الاستثمار، وتحرير الأسواق، وتشجيع القطاع الخاص، وتطعيم ذلك كله بعبارات خجولة تتحدث عن الاهتمام بمحدودى الدخل، والفئات المهمشة، كل ذلك لن يحقق إنجازا، ولن يصنع استقرارا، أو ينشئ نظاما ديمقراطيا يتطلع له الناس.
الحديث عن الشريعة فى هذا السياق مخاتلة تطيح بأحلام البسطاء قبل أن تدغدغ مشاعرهم وعواطفهم الدينية بالاستطراد فى الحديث عن أمور، هى كالهدى الظاهر فى مقابل الهدى الباطن، فالأول ينصرف إلى المظهر كاللحية والحجاب، بينما ينصرف الثانى إلى الجوهر، كالحق والحرية والعدالة والمشاركة فى إدارة الأوطان.
إن مقصود الشريعة، صياغة الإنسان الحر، موفور الكرامة الذى تتحقق له شروط الكفاية، يما ينتج بسطة فى العلم والجسم، هى وقود الاستخلاف والعمران البشرى، ولن يحقق ذلك نظاما رأسماليا متوحشا، فالرأسمالية وإن توضأت لن تكون سوى رأسمالية متوضئة، كما سماها مفكرنا الرائع عمار على حسن مظهر جميل، يخفى جوهرا متوحشا، ثرنا عليه فى يناير وسنثور عليه فى يناير آخر، إذا لم يتغير.
الناس لا تخدع بالشعارات حققوا لهم الكفاية الكفيلة بخلق طبقة متوسطة قوية، هى الضمانة الوحيدة لبناء دولتنا الجديدة، أما الاستمرار فى الحديث عن الشريعة وتمثل عقوباتها وحدودها، قبل توفر شروطها والعلم بها وبمقاصدها والإلحاح فى ذلك، واعتبارها نقطة البدء كما يحدث الآن فإهدار للشريعة ولأحلام البسطاء فى وطن يستحقونه.
على النظام السياسى أن يحدد انحيازاته السياسية بوضوح هل هو مع الثورة وشعاراتها، عيش، حرية، عدالة اجتماعية، أم أنه يسعى لإنتاج الماضى فى مظهر جديد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة