• فى ذكرى قامة
الخميس 15 نوفمبر2012 يوافق الذكرى الرابعة لرحيل الكاتب الصحفى والنقابى العظيم صلاح الدين حافظ.. أعيد نشر مقال كتبته بعد رحيله لشعورى العميق بفقدان قامات نقابية ومهنيه ووطنية نعرف الآن كم كانت خسارتنا برحيلهم
كان يكفى أن تراه فى أى مكان حتى تشعر بالاطمئنان، أو أن تقرأ له رأيا حتى تشعر بالاحترام، أو أن تستمع إليه فى أى مناقشة فلا يخالجك أدنى شك فى مصداقيته، أو أن تختلف معه فلا تجد أى مرارة فى النفس أو طعنة فى الظهر، نعم هو صلاح الدين حافظ وكفى.
كان بالنسبة لجيلى عنوانا للثقة ونموذجا للحالمين بمستقبل أفضل لأوطانهم، وقدوة للساعين لتجسيد الأحلام إلى أفكار، والأفكار إلى كائنات حية، وفى سبيل ذلك اعتبر اشتباكه فى العمل العام جزءا من رسالته ككاتب، وتحمل تبعات ذلك ونتائجه بنفس راضية، لأنه لم يكن من أولئك الذين يطلبون الجاه أو الوجاهة، أو الذين يعتلون الكراسى لتصنعهم أو يتولون المناصب فتدير رؤوسهم حيث السلطة والسلطان.
وأعتبر نفسى محظوظا لأننى اقتربت منه فى ساحة العمل العام وتعلمت منه ـ ضمن باقة محترمة أعطت العمل النقابى أجمل سنوات عمرها ـ أن النقابة وطن وبيت وحصن ولا يستحق أن ينتمى إليها إلا من يدافع عنها ويحميها ويعطيها بغير انتظار وبغير غرض. ولم تكن هناك معركة دفاعا عن الكيان النقابى أو عن حرية التعبير والصحافة أو انحيازا لقضايا وطنه وأمته إلا وكان فى مقدمة الصفوف.
كان سكرتيرا عاما للنقابة منذ نحو 40 عاما مع النقيبين أحمد بهاء الدين وكامل زهيرى، الأول خاض معركة الانحياز للمطالبة بالديمقراطية والحريات بعد هزيمة 67، والثانى أنجز مشروع قانون جديد للنقابة تضمن فى وقته مكاسب مهمة للصحفيين. وعندما ترك موقعه بمجلس النقابة ورفض خوض الانتخابات على عضوية المجلس أو على منصب النقيب احتفظ بمكانته ولم يتخل عن دوره النقابى المؤثر والفعال داخل الجمعية العمومية وكان هذا درسا آخر قدمه لجيلنا.
ولن تسعفنى الذاكرة أو الوقت أو المساحة كى أشير إلى مواقفه داخل ساحة العمل النقابى، ففى أثناء أزمة القانون 93 لسنة 1995 الذى استهدف تقييد حرية الصحافة لم يتخلف مرة واحدة عن حضور الجمعيات العمومية والمشاركة فى أعمال لجان واجتماعات كثيرة استهدفت الخروج من هذه الأزمة، ورأس المؤتمر العام الثالث فى سبتمبر من العام نفسه الذى قررته الجمعية العمومية لوضع إطار لمشروع قانون جديد تخوض به النقابة معركتها لإلغاء القانون 93. وفى أحد الاجتماعات بين مجلس النقابة ونواب مجلس الشورى من الصحفيين للتشاور حول مشروع النقابة وكان يحتوى على مادة تطالب بعدم جواز فصل الصحفى إلا بعد إخطار النقابة بمبررات الفصل ثم تقوم بدور التوفيق فإذا لم يصل إلى نتيجة تقوم بدور التحكيم الذى يكون بمثابة حكم ملزم لأطرافه ويجوز الطعن عليه استئنافيا، وكان من بين المدعوين الدكتور رفعت السعيد الذى أبدى اعتراضا شديدا على وجود هذه المادة وطالب بحذفها، وقال: "كيف تكبلنى النقابة فلا أستطيع أن أفصل صحفيا لا يعمل؟".. وهنا انفعل صلاح الدين حافظ فى مرافعة رائعة مغلفة بالسخرية والمرارة ورد متهكما: "إنكم لم تتوقفوا عن أن تعطونا دروسا فى الاشتراكية وحقوق العمال وضمانات علاقات العمل، ثم عندما نترجمها فى تشريع قانونى، أنت الذى تغضب وتطالب بحذفها!".
وخلال أزمة القانون كتب مؤكدًا "إن الردع بشدة القانون وغلظة العقوبة وقسوة التشريع لا ينفع، وقال إن حرية الصحافة لن تكون مسئولية إلا فى مناخ عام يشيع الاستنارة ويقبل النقد ويؤمن بالحريات ويمارس الديمقراطية".
وظل الراحل فى مقدمة الأصوات المطالبة بإلغاء ترسانة القوانين المقيدة للحريات، وعندما عقدت جمعية عمومية فى مارس 2006 للمطالبة بإلغاء الحبس فى قضايا النشر، شارك فى كل أعمال واجتماعات هذه الجمعية وخرج مرتين ـ رغم شدة مرضه ـ فى أبريل ويوليو من العام نفسه فى تظاهرتين أمام مجلس الشعب وسط جمع من النقابيين والصحفيين وأنصار حرية التعبير كى يخرج التشريع ملبيا مطالبهم.
صلاح الدين حافظ الذى خاض معارك كثيرة حتى مع مرضه الذى لازمه عدة سنوات توقف ـ على غير عادته ـ عن المقاومة مستسلما وراضيا عقب وفاة ابنه فى شهر أغسطس الماضى، لكن يشاء ترتيب القدر أن يجعله يترك لنا وصاياه الأخيرة قبل فاجعته بشهور قليلة فقط، فقد صدر كتابه الأخير "تحريم السياسة وتجريم الصحافة" ثم كتب مقالا مهما فى أبريل من العام الجارى بعنوان "فهل إلى خروج من سبيل". فى الكتاب تكلم عن المناخ الذى يوجع قلب الإنسان وقلب الوطن وقال: "لا أظن أن الدائرة الجهنمية ستظل دائرة إلى الأبد وعليك أن تختار وتحدد موقفك إما عبدا فى الدائرة الجهنمية وإما سيدا فى وطن الحرية"، وأكد "إن القهر باسم القانون أو من خارج سلطة القانون لا يقضى على حرية الصحافة، والاتهامات والمحاكمات والعقوبات لن توقف المطالبة بالحريات، ولن تستطيع إسباغ التقديس على ما هو غير مقدس، ولا إضفاء التحريم على ما هو غير محرم"، وفى مقاله اقترح تشكيل هيئة تضم 200 شخصية وطنية لتضع من الآن مشروعا سياسيا لرؤية لمستقبل مصر حتى عام 2025 كمرحلة أولى بما يعيد صياغة السياسات العامة والفلسفة الحاكمة كمشروع قومى موحد يحدد المسئوليات والواجبات انطلاقا من خمسة مبادئ حاكمة وهى إصلاح ديمقراطى حقيقى، وتنمية بشرية شاملة، وتحقيق العدالة الاجتماعية للطبقات والفئات الأفقر فى مصر، ومحاربة تحالف الفساد والاستبداد، وترشيد الليبرالية المتوحشة وقمتها العولمة الشرسة التى تطحن الشعب الفقير المقهور أصلا.
صلاح الدين حافظ معين لا ينضب من الفكر الحر والإبداع الإنسانى والوطنية الصادقة والأخلاق الرفيعة وكثير من المعانى التى لا ترحل مع صاحبها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة