مقدمة واعتراف بفضل الأجداد:
من لا يعرف قيمة الأجداد والتاريخ فلا حاضر له يُنظر ولا مستقبل له يُرجى، ولأنى ابنة العرب فكيف بى أنسى صاحب المقامات الكاتب والأديب بديع الزمان الهمذانى الذى ولد فى 969م وتوفى قبل أن يبلغ الأربعين عام 1007م، وأشهر ما ابتدع كان كتاب المقامات، وهو مجموعة حكايات قصيرة متفاوتة الحجم تجمع بين الشعر والنثر، أما بطلها فكان رجلا يدعى أبوالفتح الإسكندرى، وأما الراوى لهذه الحكايات فكان يدعى عيسى بن هشام، ورغم موت الهمذانى وفنائه فإن مقاماته ظلت حية تتداولها الأيدى والعيون والعقول جيلا بعد جيل، وظل بطله وراوى حكايته عيسى بن هشام موجودا يحكى لأجيال حاضرة ما كان فى الأزمان الغابرة، إلى أن جاء عام 1895م حيث عاد عيسى بن هشام للحياة الحديثة آنذاك على يد الكاتب والصحفى محمد المويلحى الذى أسس جريدة مصباح الشرق ونشر فيها أشهر عمل ارتبط باسمه تحت عنوان «فترة من الزمان - حديث عيسى بن هشام»، وهى سلسلة من المقالات جُمعت فى كتاب شهير والراوى فيها هو نفس راوى مقامات الهمذانى، حيث يقص رحلة قام بها البطل والراوى عيسى بن هشام برفقة أحد باشوات مصر بعد أن خرج هذا الباشا من قبره، وكان قد مات منذ زمن بعيد ثم خرج يتجول فى شوارع مصر المحروسة ودوائرها الحكومية مصاحبا بن هشام، ويعتبر هذا الكتاب أحد درر الأدب العربى تماما كما هى مقامات الهمذانى. ولهؤلاء الأجداد وراويهم عيسى بن هشام الذى لا يموت منى كل تحية واحترام وتقدير، فلهم ولخيالهم الفضل.
البداية:
أمسكت بالصحف أقرؤها، وفيها ما فيها من أخبار لا تسر عدوا ولا حبيبا، وتعبت من كثرة ما قرأت من أرقام واعتصامات وإضرابات ومشاكل بالكوم، فغشينى النعاس الذى فيه موت مؤقت كما قال رب العزة، وراحة من كل هم أحيانا كما قال العلماء، ولم أعرف كم مضى بى الوقت فى النعاس غير أنى فتحت عينىّ لأجد إلى جوارى رجلا مهيبا على وجهه سماحة وابتسامة مطمئنة ينظر إلى فصرخت بالصوت الحيانى آه يانى! من تكون إنسى أم جنى؟ عدو أم حبيب؟ ففزع الرجل ولكن بوقار، وقال بصوت كله إصرار: ألا تعرفين من أكون؟ فقلت له بصوت مهزوز ونفس مقطوع: والنبى يا عم معرفكش ربنا يخليك لو عايز فلوس مفيش لكن لو عايز أى حاجة كده ولا كده برضه مفيش.. فابتسم الرجل وعلى وجهه علامات كسوف وقال: لا أريد مالا ولا حاجة كده أو كده أنا أتيت لأنك طلبتينى فهل أخطأت لأنى أجبت؟ فقلت له: والله يا عم ما طلبت دليفرى ولا أى حاجة مين ده اللى استدعاك؟ فبدا أن الرجل لم يفهم ما أقول، ولكنه انتفض وقام وهو ممسك بيدى يجرنى فى اتجاه مكتبتى وفتحها وأخرج منها كتابا ومد يده إلى وهو يقول: أنا هذا الذى تقرأين عنى وعلى لسانى حكايات أهل زمان فات.. أنا عيسى بن هشام.. يا نهار أسود هل النوم بعد قراءة الصحف يدفع الإنسان للهلوسة.. طبعا أنا اللى كنت بأقول، ولكن وللعجب فركت عينى حتى كدت أفعصهما ثم فتحتهما فتأكد لى أننى أقف بالفعل أمام ذات الرجل المهيب وسمعته يقول يا بنت شومان إننى أتيت إليك من زمان غير الزمان فى مهمة مرصودة وممدودة حتى أقف على حال العباد فى زمان الأحفاد وأحفاد الأحفاد لأن الأجداد فى أرق وسهاد عليهم.
وتأكد لى بكل السبل والأساليب أنى لست فى حلم بل علم، وحتى لو كنت فى حلم فهو مستمر فعلى إكماله حتى موعد الصحيان، فقلت للضيف المهاب: وما مطلبكم يا عم الأجداد؟ فقال: طلب بسيط ليس فيه من نَصب ولا مشكلة، مجرد مسيرة بأى ركوبة فى شوارع المحروسة أطمئن فيها على الأنام وأعود بعدها لأنام، ولكن قولى لى أى يوم فى التاريخ أنتم تعيشون؟ فقلت: بسيطة نحن فى يوم الجمعة الثانى عشر من شهر أكتوبر فى سنة 2012م 1433هـ، ولكن بالنسبة للركوبة فى شوارع المحروسة وأحوال الأنام أحب أطمنك هى مش تمام!
وهنا زمجر الرجل وبدت عليه لأول مرة ملامح الغضب وقال لى بصوت جهورى: انهضى ودعينا نبدأ رحلتنا بلا كلل فأنت تصيبينى بالملل، ولم يكن هناك من بد فى أن أصحب عيسى بن هشام فى أول أيام عودته الميمونة إلى شوارع المحروسة وقررت أن تكون البداية ميدان مصطفى محمود القريب من منزلى الذى تجمعت فيه مجموعات كبيرة من المصريين الداعين لجمعة الحساب وطبعا ربما اتخذت هذا القرار خبثا لعل بن هشام يرى التجمع الغفير ويشعر بصوت الهدير فيخاف ويعود من حيث أتى ولا يجبرنى على اصطحابه فى هذا اليوم العسير، وفعلا وصلنا للميدان وسألنى عيسى من هؤلاء الأنام أهم مجتمعون من أجل الخصام أم الوئام؟ فقلت له بل هم متظاهرون لحساب السلطان؟ فقال وأين أميرهم أو السلطان؟ فأجبت بأنه فى الإسكندرية يصلى ويخطب فى البرية، فقال: وهل يسيرون إليه حتى هناك؟ فقلت: لا بل هم يذهبون إلى ميدان التحرير مقر ثورة الشعب ليلتقوا بآخرين يشاركونهم الهم والدعاء.
وأثناء سيرنا من الدقى إلى التحرير راح عيسى بن هشام يسألنى عن أحوال البلاد والعباد فحكيت له على عجل ما حدث منذ الثورة فى صورة عنوانين لأنى كنت مهتمة بالهتاف، ولكن فجأة وقف بن هشام وجذبنى وقال: يا بنت شومان ما هذه المزبلة التى نسير فيها وما كل هذا الغبار لقد ضاق صدرى برائحة الدخان، فقلت له اصبر هذه ضريبة الزحام وكثرة الأنام فقال: ولكن أين بساتين المحروسة وزهورها التى تركناها لكم منذ زمان؟ أين أشجارها والخوخ والرمان؟ ولم لون كل شىء مصبغ بالرمادى وأنتم فى بلاد النيل المحروسة؟ وطبعا شعرت بقليل من الخجل من «تقريظ» الرجل على ما فاتوه لنا وضيعناه، ولكن للحق كنت أكثر اهتماما بالمسيرة، فهززت رأسى وقلت معلش يا عم عديها، وما أن وصلنا للتحرير حتى رأى ضيفى ورفيق الرحلة الناس تقف فى مجموعات يبدو عليها التربص، ثم ما هى إلا لحظات وبدأ وابل من الحجارة والعصى تطير من هنا وهناك، فصرخت وجذبته من يده لكى نحتمى بحائط فتساءل بن هشام ما هذا ومن أين تأتى الحجارة والشوم والدخان؟ ألم تقولى إن هؤلاء الأنام قادمون لحساب السلطان فلم يتعاركون وقد يصيبوننى؟ فقلت بعضهم أتى لحساب السلطان لكن البعض الآخر أتى لمؤازرة السلطان، فقال إذن هم عسعس السلطان، وليسوا كسائر الأنام، قلت يا عم الله يسعدك دول الإخوان، فرد: وكيف بإخوان يفعلون ذلك بإخوان؟ فقلت لأن هؤلاء إخوان مسلمون أما الآخرون فلا ينتمون لهم، فرد قائلاً: ومنذ متى يقتل أو يرهب الإخوان المسلمون الأعاجم؟ فقلت: يا عم دول مش عجم دول برضه مصريين لكن مختلفين.
فرد بن هشام قائلا: مصريون يتقاتلون مع إخوان مصريين وكأنهم عسعس السلطان، لا يا بنت شومان إنه فعلا آخر الزمان، وهذا لا يصح ولا يليق، وسأبرز إليهم وأقف بينهم، فالمحروسة وأهلها فى رباط إلى يوم الدين، وأثناء محاولتى لجذبه حتى يظل لجوارى رفع بن هشام رأسه فإذا بحجر يشجه والدم يتطاير منه فيصرخ ويقول: آه يا ليتنى ما عدت حتى أرى الإخوان ويشجون رأس بن هشام!!
وللحديث بقية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد هاشم
كيف تستقبلين رجلا غريبا في غرفة نومك؟
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عبد الفتاح
الانصاف
عدد الردود 0
بواسطة:
العمدة
شكلك فاهمه يابنت شومان
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب
هذا الطف واظرف وامتع مقال منذ الثوره - احييكى على هذا الاسلوب وهذا الطرح الذكى
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب
اعرفك بنفسى - انا عيسى بن هشام وبالفعل اكلت طوبه اخوانيه غادره مساء الجمعه الماضى
عدد الردود 0
بواسطة:
husa
السندباد
المقامات فن رائع