هل يمنحنا المرض قوة، أم نعتاد عليه ونتحول إلى أصدقاء، ونمحو من ذاكرتنا أيام الضعف والبكاء التى استقبلناه بها؟.. لا إجابة لهذا السؤال سوى أن تعيش التجربة، أن تستيقظ على ورقة تحليل تؤكد إصابتك بسرطان.. صحيح ماذا ستفعل وقتها؟!، قبل أن أخبرك بالتفاصيل لابد أن تعلم أنك بعد عام من تعايشك مع المرض ستصبح أكثر تفاؤلا وقوة ، لا تسألنى: إزاى؟، ولكن اسأل صديقتى التى هاتفتها منذ أيام، وسمعت منها كلمات تختلف كثيرا عما سمعته منذ سنة تقريبا..
المشكلة أنها لم تعد تضحك، ولم تعد كلمات شاعرنا «خليل حاوى» تأتى معها بنتيجة، تقول الآن إنه انتحر يأسا وأسفا، مع أنها منذ 10 سنوات كانت تقول العكس، كانت تقول إنه مات باختياره ليسجل اعتراضه بدمه على الاجتياح الإسرائيلى لبيروت، تقول إنها الآن تعلم- وعن تجربة- لماذا يحب اليائسون البائسون الموت؟.. لأنه يأتى بالراحة، يأتى بالصمت الذى لا يحتوى على أى تفكير.
عدت إلى سلم الكلية، حيث تجلس، وتتحدث عن جبران خليل جبران ورسائل الأمل التى يبعثها للعالم عبر كتابه «النبى»، عدت لأيام جاءت بعدها وهى تصطحب «خالد» حبيبها المحظوظ لتقول لى اجعل من نفسك «نبى» كما يقول جبران.
من كانت تجرى بين الكتب والمكتبات والجمعيات الخيرية وبيتها وزوجها تجلس الآن على كرسيها الهزاز الذى تحبه، صامتة ، معترضة، تنتظر أن يصل بها القطار إلى المحطة الأخيرة، رغم أن عدد ما تملكه من سنوات لم يصل بعد إلى 28.. هل يفعل المرض ذلك بنا؟
محمد، أنا عندى السرطان، بس تعرف أنا مش خايفة، حاسة إنى بطلة فيلم أمريكى من اللى بحبهم، هكسب التحدى مع المرض، وهبقى قصة ممكن يتعملها فيلم عندنا.. همّ ليه صحيح مش بيعملوا أفلام إنسانية عندنا؟، الدكتور قال لى أنا بالعلاج هبقى كويسة، بس أنا خايفة على «خالد» مش هعرف أخليه أب زى ما هو عاوز، أنا قلت له يسيبنى، ولو بقيت كويسة يبقى يرجعلى تانى.. محمد إلا هو ممكن يرجع تانى؟
لم أعرف ما الذى جعلنى أتكلم معها بعد فترة بعاد، كما أننى لم أعرف حتى الآن لماذا انقطعت عن زيارتها منذ زمن؟ ربما لأنها طلبت ذلك، أو ربما لأننى نذل أكثر من اللازم.
جاء صوتها ضعيفا، مثلما أصبح أملها فى الشفاء ضعيفا أيضا.. واضح يا محمد إن «السبكى» مش هيعملى الفيلم، لأن نهايتى هتكون زى نهايات كثيرة.. عارف السرطان طلع زى إسرائيل بالضبط، لا نفع معاه أسلحة كيماوية، ولا حقن، ولا جلسات مفاوضات علاجية، ولا بكاء ولا تنديد ولا شجب، ولا حتى حجارة.. بينتشر وأنا خلاص مش عاوزة أقاوم، أنا دلوقت عرفت ليه «خليل حاوى» انتحر!.
هو فقد الرغبة فى المقاومة، فاتكسف من نفسه وقرر يمشى، أنا كمان تعبت ونفسى أمشى، مكسوفة من نفسى أوى، مش قادرة أستحمل دمعة بابا المحبوسة، ولا أنفاس الخوف اللى بتخرج من صدر أمى، ولا أصواتكم المليانة شفقة.. أنا تعبت لأنى بتعبكم.
أين هى الجمل المحفوظة التى يقولونها فى تلك المناسبات؟.. عفواً لسانى لا يجيد التعامل مع تلك الأكليشيهات، وهى تعرف ذلك، ولذلك قالت لى ما لم تقله لأحد، فقلت لها: إن رحلتِ ورايتك البيضاء مرفوعة، فلن ترضى عن نفسك وأنت فى الآخرة.. أنا حافظك تماما!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة