إذا كانت انتهاكات الشرطة من أهم أسباب انفجار الغضب واندلاع ثورة 25 يناير، إلا أن الأحداث اليومية الملتهبة شغلتنا عن القضية الأهم، وهى رسم خريطة طريق جديدة للعلاقة بين الشرطة والشعب، أساسها الاحترام القانونى، بين جهاز أمن منضبط، ومواطنين لن يقبلوا بعد اليوم أى صورة من صور الإهانة.
وضعت الثورة تجاوزات الشرطة وانتهاكاتها فى مزبلة التاريخ، ولم يعد مقبولا ولا مسموحا أن يصفع أى شرطى طالباً على وجهه، ويقول له "تحقيق شخصيتك ياروح أمك".. أو أن يعتدى ضابط مباحث على وكيل نيابة بالضرب والشتائم، أثناء قيامه بأداء عمله فى التفتيش على غرف الحجز والتنكيل والتعذيب.
لن يتحقق ذلك إلا إذا تخلصت البلاد والعباد من فلول الشرطة، الذين أساءوا إلى الشرطة، ولطخوا تضحياتها وجهودها ببقع سوداء، وجراح غائرة، وتوجت المأساة بالانسحاب الأمنى التآمرى يوم 28 يناير، وتركوا البلاد بين أنياب الفوضى والحرق والتخريب والتدمير، أقسام الشرطة وسياراتها المحترقة شاهد عيان على مأساة فلول الشرطة، ليسوا فزاعة أو شماعة، ولكنهم صنف من الفاسدين والمرتشيين والمخربين الذين اندسوا تحت جلد الجهاز العريق فأصابوا الجسد كله بالتقيحات والدمامل.. وهم على سبيل المثال لا الحصر مليشيات ضباط المباحث.. من الخطرين والمشبوهين والفتوات والبلطجية، والذين كان يستعين بهم بعض الضباط كمرشدين خصوصا فى الأحياء الشعبية، وروعوا الآمنين بالتحريات الكاذبة والبلاغات الملفقة، وكم تم الزج بأبرياء فى السجون ظلما وعدوانا بسبب هؤلاء المنحرفين.
المخبرون السريون.. وفى مصر مازالوا يعملون بطريقة أفلام أبيض وأسود، إما بمراقبة الناس عن طريق جورنال مخروم، أو بأن يقول مخبر لزميله "تسمح تولعلى" ودرجت أحكام المحاكم المصرية على عدم الاعتراف بعبارة "مصدر سرى" بالتحقيق والتزوير وعدم الأمان.
أمناء الشرطة، رقصوا على السلم فى المنطقة الحرجة بين "الضباط" و"العسكريين"، فتمدد نفوذهم فى المنطقة والأحياء الشعبية وأصبحوا "باشوات" الميكروباص والمقاهى، و"زينة الحتة، والويل كل الويل لمن يضعه الباشا أمين الشرطة فى دماغه.
ضباط النوبتجية.. يا ساتر إذا وضعك حظك العاثر أمام أحدهم للبلاغ عن سرقة أو اعتداء أو أى جريمة أخرى.. غلاسة ورزالة وكبر وغرور، وكأنه شارلوك هولمز أو جيمس بوند، وياسلام لو كان فى ضيافته زبون غنى أو ثرى مشغول بالحديث معه، فسوف يطلع على جتتك كل العفاريت والبلا الأزرق.
هذه نماذج أو عشناها أو سمعنه عنها أو شاهدناها فى أفلام والمسلسلات، وهى بالفعل حقيقة جعلت "السيئة تعم" وشوهت صور الشرطة فى نظر الناس، وجعلت أفرادها لا يلقون القبول والترحيب، وانطلق الغاضبون يوم 25 يناير للانتقام والثأر.
هذه هى القضية الأهم التى نسيناها فى زحمة الأحداث، وبعد أن شعر الجميع بضرورة الشرطة وأهميتها وأن الأمن والهدوء والاستقرار لن يتحقق بدونها، وبات ضروريا أن نبتعد قليلا عن دفتر الأحوال اليومى، ونقترب من جوهر القضية.
الشرطة يجب أولا أن تحترم القانون، لا أن تتحايل عليه أو تضرب به عرض الحوائط، القانون الذى لا يعرف الواسطة ولا المحاباة، فينتفض الباشا الضابط ليقلب الدنيا إذا جاءه تليفون توصية على شخص مهم، بينما لا يحرك ساكنا إذا وقف أمامه مواطن بسيط يشكو من مظلمة.
القانون الذى لا يعرف بدعة الاختفاء القسرى لبعض المواطنين مثل البوليس السرى فى أفلام محمود المليجى، فلا تعرف مكان المتهم ولا جريمته، ووصلت المأساة ذروتها فى تصريح هزلى لمجرم الداخلية حبيب العادلى، قال فيه إنه لا يعرف أعداد المعتقلين فى مصر لأنهم "رايح جاى"..
القانون الذى يحظر الضرب فى غرف الحجز أو أقسام الشرطة، ويحفظ كرامة الإنسان وآدميته، ومن الأمن يجب أن يرفع شعار "فلتقطع يد من يصفع مواطن"، وإذا دخل مواطن غرفة حجز، فهو وديعة فى يد الشرطة حتى وهى مسئولة عن حياته وسلامته، ولم يعد مقبولا بعد اليوم التقارير الطبية المزيفة حول الهبوط المفاجئ فى الدورة الدموية.
القانون الذى يحدد مواصفات السجون، فلا تكون مثل عشش الفراخ التى تصيب نزلاءها بكل أشكال الجرب والأمراض الجلدية، ويجعلها مفتوحة دائما أمام النيابة العامة وجمعيات حقوق الإنسان وأهالى السجناء.
القانون الذى هو برىء من ظاهرة "زوار الفجر" حين ينقض رجال الشرطة مثل الزبانية للبحث عن أحد المتهمين، ويثيرون الرعب والفزع بين أهله ونسائه وأطفاله، دون رحمة أو شفقة، وكأنهم جاءوا من جهنم لاصطحاب أحد المطلوبين.
القانون الذى يجرم الأدلة الملفقة والتحريات الكاذبة والزج بالأبرياء فى قضايا لا شأن لهم بها، يكافح شهود الزور ويجعل الناس يشعرون بأن العدل هو الحضن الدافئ الذى يحقق الراحة والطمأنينة.
هذه هى الشرطة التى نريدها، لخدمة الشعب وليس قهره، لتحقيق العدالة وليس الظلم، لإشاعة الطمأنينة وليس الخوف.. تحترم القانون ولا تخترقه، تقدم الورود للمتظاهرين المسالمين، لا أن تدهسهم بالجرارات والرصاص المطاطى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة