الحديث هنا ليس عن العمر بشكل محدد باعتباره عدد السنين، ولكن عن الحالة الروحية لصاحب العمر، فهناك من الشباب من يشيخ مبكراً بفعل الأهوال التى يمر بها، وهناك من كبار السن من تتلبسه روح الشباب بفعل استيقاظ الرغبة فى الحياة فى داخله، لكن هذه استثناءات لا يعتد بها كقاعدة فى حركة المجتمعات، فإذا كان سعد زغلول قد قاد ثورة 1919 وقد تجاوز الستين بكثير، فلا يعنى هذا أن كل من تجاوز الستين يقود ثورة، ولم يحدث بعد سعد زغلول فى مصر أن قاد شخص فوق الستين أى شىء، الأمر نفسه مع غاندى فى الهند وهكذا، والذى يحدث فى مصر أن ثورة 25 يناير العظيمة دعا إليها وقادها شباب بين العشرين والثلاثين من العمر وانضم إليهم ملايين من الشباب تدور أعمارهم حول العشرين وانضم إليهم أيضاً الملايين من الكبار الذين تجاوزوا الثلاثين والأربعين والخمسين والستين أحياناً، لكن تظل العلامة الأكبر فى الثورة هى الشباب حول العشرين سنة، وكان من دواعى هذه الثورة غير فساد النظام السابق ومظاهره التى صارت معروفة من قمع وسرقة ونهب وفساد وتزوير وكل ما جلب الخراب إلى البلاد، أن النظام السابق كان شائخاً مترهلاً بطيئاً فى الاستجابة لدواعى العصر ولنزعات البشر للتجديد، كان يبدو مطمئنا على وجوده، مرتكزاً على قوة قمعية كبرى لجهاز الأمن، لكنه أيضاً كان مطمئنا على وجوده بفعل الرتابة فى اتخاذ القرارات والبرود فى ردود الفعل، وانتقل ذلك من رئيس النظام إلى كل من حوله من رجال الحكم، حتى الأصغر سناً منهم صاروا مطمئنين اطمئنان العواجيز، أنه لا شىء يتحرك حولهم وأن الدنيا وقفت عند أفكارهم. لقد أصاب هذا العته الكبار والصغار من رجال ذلك النظام حتى إنهم كانوا لا يخفون دهشتهم من تذمر الشعب أو حتى وجود الشعب من أصله.
نجحت الثورة فى التخلص من رأس النظام وبعض رموزه، وصار الأمر للمجلس العسكرى الذى ناله من الثقة الكثير جداً لحظة أن تولى الحكم باعتباره ممثلاً للجيش درع الأمة الواقى، وباعتبار أهل العسكرية دائماً أكثر حركة ونشاطاً من أهل المدنية فالثانية الواحدة قد تفرق فى قيادة المعركة وتسبب هزيمة أو نصراً.. الذى جرى بعد ذلك أنه ظهر أن إيقاع المجلس العسكرى رتيب وشديد الهدوء فى التغيير المرتقب، بينما أى مراقب للثورة يعرف أنها لن تهدأ فى نفوس صانعيها من الشباب إلا بعد عشرين أو ثلاثين سنة هى مستقبل هذا الشباب كله. وحدثت أشياء مناقضة لما توقعه الثوار على رأسها المحاكمات المدنية لرجال النظام السابق والعسكرية لشباب الثورة وتدخل الشرطة العسكرية أكثر من مرة فى فض الاعتصامات بالقوة وفى كل مرة يروح فيها شهداء ولا تظهر أى نتيجة للتحقيقات ولا يدان أحد من الذين فعلوا ذلك ويلقى باللوم كله على من خرجوا يحتجون، ورتابة ملل عمل الحكومة التى يرأسها شرف بحيث صار معروفاً عند حسنى النية برئيس الوزراء إنه لا يملك شيئاً يفعله. مرت عشرة أشهر عاد فيها الإعلام الرسمى إلى مكانه من إدانة كل حركة لمطلب من مطالب الشعب باعتبارها تعطيلاً لعمل المجلس العسكرى والحكومة، وبدا مع الوقت أن الحياة المصرية تعود إلى حالتها القديمة، فما يفعله المجلس العسكرى والحكومة هو الصواب وما يفعله الشعب ليس ثورة ولا من ظواهر الثورة ولا توجد ثورة أصلاً!! حتى إن الكثيرين بدأوا يسألون ساخرين: متى يعود مبارك من جديد إلى الحكم؟.. فى النهاية بدا للجميع من الثوار من كل الأعمار والشباب منهم أن العجلة تدور إلى الوراء والخطاب القديم يعود إلى مكانه حتى كان ما كان من اعتداء فاحش على مائتى شاب معتصمين فى التحرير بينهم عدد من مصابى ثورة يناير وما تلاه من اعتداءات فاقت فى بشاعتها اعتداءات النظام السابق، امتلأ الميدان فظهرت الثقافة القديمة الشائهة عن عناصر مندسة وعن بلطجية فى الميدان، بل وصل الأمر إلى إعداد متظاهرين فى ميدان آخر فضيحتهم مجلجلة على الإنترنت، حيث تعرف من هم وكيف صدرت لهم الأوامر ودفعت لهم الفلوس، وغير ذلك من ثقافة النظام القديم، وتصريحات بنفى استخدام الشرطة للرصاص الحى والخرطوش تطورت إلى القول باستخدام الثوار لها ضد الشرطة!! وهكذا عادت الشيخوخة فى معالجة شؤون الحياة تتجلى من جديد.
شيخوخة من أثر العمر ومن أثر العشرة مع النظام السابق لا ترى شيئا يتغير حولها ولا ترى إلا الاستقرار الموهوم، شيخوخة تتجلى فى مواجهة الثورة بنفس الثقافة القديمة. للأسف لقد صنع النظام السابق نفوسا عجوزة ولا يدرى بذلك أصحابها ولن يدرون إلا بعد كثير جداً من الشهداء الذين لن تنقطع شهادتهم إلا بعد أن تنتصر الثورة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة