منذ سنوات.. وقف الدكتور زكريا عزمى تحت قبة البرلمان يقول بصوت عال: الفساد فى المحليات وصل للركب.. وبسرعة تحولت العبارة إلى واحدة من أدبيات الإعلام والعمل السياسى المحلى فى مصر.. قالها وكتبها كثيرون سواء من باب الافتتان بالعبارة وما تعنيه، أو للاستشهاد بها ومكانة قائلها الذى هو الرجل القوى صاحب المكانة والنفوذ ورئيس الديوان الجمهورى وليس مجرد نائب آخر فى البرلمان.. المهم أن العبارة قيلت على كل لسان ودخلت كل أذن وباتت أمام كل عين.. احتفت بها كل صحيفة سواء قومية أو خاصة أو حزبية.. تكررت بإلحاح وتنقلت من تحت قبة البرلمان لتسكن تحت كل القباب وأسقف البيوت والصالونات والأكواخ والعشش..
ولكن.. دعونى الآن أخبركم بما جرى بعدها، فالدكتور زكريا عزمى حين وقف يقول أو يصرخ بأن الفساد فى المحليات وصل للركب.. كان ذلك قبل سنوات حين كانت قضايا فساد المحليات تقع بمعدل قضية جديدة كل سبع دقائق.. وبعد عبارة الدكتور زكريا التى رددناها كلنا وكل هذه الأضواء التى تسلطت فجأة على المحليات وفسادها، أصبح معدل قضايا فساد المحليات الآن هو قضية جديدة كل دقيقة ونصف فقط.. فماذا يعنى ذلك.. لا تتعبوا أنفسكم فى البحث عن أى معنى حقيقى أو تفسير يرضى أهواءكم.. فليس هناك إلا معنى واحد فقط هو أننا كلنا خسرنا هذه الحرب.. كلنا بلا استثناء.. الدكتور زكريا عزمى بكل ما يمثله من سلطة ونفوذ والدولة بكل أجهزتها وهيئاتها.. مجلس الشعب الموقر بكل نوابه.. الصحافة بكل صخبها والإعلام بكل أضوائه.. والناس بكل غضبهم وامتعاضهم وقدرتهم على السخرية.. فكل هذه الحروب التى خضناها كل على طريقته ووفق حدوده وإمكاناته.. لم تنجح فى الحد من قضايا فساد المحليات الذى كان قد وصل للركب، فأصبح بعد حروبنا واصلاً للزور وشعر الرأس وأطراف الأصابع.. أما التفسير الوحيد لذلك فهو أننا كلنا مجرد ظاهرة صوتية وإعلامية.. نتصور أن الفساد ليس موجودا إلا لكى يتحدث عنه بعضنا تحت القبة.. ويشير إليه النجوم فى برامج التوك شو.. وتستغله صحافة المعارضة للسخرية من الحكومة.. وتشير إليه الصحف القومية على استحياء لتثبت أنها صحف مستقلة عن الحكومة.. ويلجأ إليه الكبار عند الضرورة للتخلص من أعدائهم وكأنهم اكتشفوا فجأة فساد هؤلاء الأعداء.. ويمارس الأبرياء هوايتهم فى التعليق على المواقع الإلكترونية والسخرية من الفساد والفاسدين ومن الذين يحاربون الفساد أيضاً.. لكن لا شىء على الأرض يتغير.. لا يشعر الفاسدون بأى حرب من تلك التى نجيد التظاهر بالقيام بها.. لا يخافون من لساننا الطويل ولا من طبولنا الصاخبة الجوفاء ولا من سخريتنا الحمقاء..
والنتيجة أننا كلنا عاجزون حتى الآن عن ردع فاسد واحد.. ننتظر فقط من يقع منهم بمحض المصادفة فنحاكمه، لكننا لا نحاكم أيضا كل الظروف التى سمحت بهذا الفساد.. وعلى سبيل المثال كلنا الآن يعرف أن 12 % فقط من المبانى التى تقام فى مصر كل سنة هى التى تلتزم بقواعد البناء ومتطلبات القانون واشتراطات الأمن والسلامة.. والباقى مبان مخالفة سواء بعدم الحرص على السلامة أو عدم احترام القانون أو لأنها أقيمت بلا تراخيص أصلاً.. والحكومة هى أول من يعرف ذلك.. لكنها أبدا لم تحاول زيادة نسبة المبانى السليمة أو تقليل نسب المبانى المخالفة.. كأنها مجرد نكتة يضحك منها وعليها الجميع.. كأنها حقيقة وواقع لا يمكن تغييره أو إصلاحه.. ستقول الحكومة إنها تصدر 112 ألف قرار إزالة كل عام لا يجرى تنفيذها.. إن أجهزتها كشفت مؤخرا أكثر من واقعة فساد فى المحليات.. وهذا رائع.. لكن أليس من الأولى مراجعة النظام نفسه الذى يسمح بمثل هذا الفساد.. ففى مصر 1507 مجالس محلية.. وبالقطع هناك فاسدون فى كل مجلس.. مواجهتهم ليست بالقبض على ثلاثة أو عشرة.. وإنما بتغيير كل هذا النظام المهترئ العاشق للفساد.. وتغيير كل منهجنا فى حرب الفساد.. وأن نكون جادين ولو مرة واحدة فى حياتنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة