ثروت الخرباوى

محمد حبيب ـ الضحية والرحيل

الإثنين، 28 ديسمبر 2009 07:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ظاهرة غريبة تستحق الدراسة والبحث والتحليل تنفرد بها منذ عقود ليست بالقصيرة جماعة الإخوان المسلمين عن أى جماعة أو حزب، فما أن يبزغ نجم أحد أفرادها أمام جموع الناس ويحظى بثقة الجماهير وتقدير الأطياف السياسية حتى يتم دفنه فى غيابة الجب الإخوانى وإبعاده عن أى موقع قيادى عقابا له على ما اقترفت يداه من شهرة واستنارة وقدرة على التأثير، حدث هذا مع عشرات من النابغين الذين ساهموا فى تجميل وجه جماعتهم أمام الرأى العام، والذين قدموها للناس بحسبها جماعة وسطية معتدلة، والباحث فى علم نفس الجماعات يعرف أن الجماعة – أى جماعة – عندما تشعر أنها مهددة بالزوال أو التلاشى فإنها تدافع عن نفسها عبر عدة وسائل إذ تسعى أولاً إلى وأد أى حركات تجديدية داخلية ومحاربتها بشتى الطرق (فيما يعرف فى العلوم الطبية بمرض "الذئبة الحمراء" وهو مرض يصيب الجسم ينتج عن خلل فى الجهاز المناعى للجسم تجعله بدلاً من أن يحمى الجسد من البكتريا والفيروسات فإنه يهاجم الجسم الذى يحميه)، كما أنها تسعى فى ذات الوقت إلى الانكماش والتقوقع على ذاتها كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس بحيث تبقى بمعزل عن البناء الحضارى للمجتمع، كان ضحايا "الذئبة الحمراء" من المجددين غير التقليديين يتساقطون الواحد تلو الآخر على وهم من الجهاز المناعى أن أفكارهم وحركتهم وشهرتهم تنال من استقرار التنظيم وبقائه، ذهب أبو العلا ماضى ضحية لهذا الخلل التنظيمى وذهبت معه مجموعة لم ير الإخوان مثلها من ناحية الفاعلية والتأثير، وسقط ضحية لهذا الخلل أيضا كل من مختار نوح وإبراهيم الزعفرانى وحامد الدفراوى وخالد داود وحسن الحسينى وإبراهيم البيومى غانم والسيد عبد الستار المليجى وغيرهم.

وإذا كان من المتوقع يقينا أن يطال هذا المرض اللعين الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح فيقصيه ويبعده عن موقع التأثير والقيادة ــ إذ كانت خطوات هذا الرجل تسبق خطوات الجماعة وتغايرها فى الاتجاه ــ إلا أنه لم يرد على بال أحد أن يكون الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد هو الضحية الأخيرة ... ولكن ما لم يكن متوقعا حدث وما لم يرد على البال ورد وطار الرجل بعيدا عن الموقع الذى كان ينتظره، وضاعت منه الإرشادية فى غفلة منه، وإذا كان الدمايطة شطّار كما يقولون إلا أن حبيب لم يكن شاطرا، فـ "الشاطر" هو من تتغير بنود اللائحة من أجله وهو من احتفظ بموقعه حتى حين ولو كان فى دهاليز السجون!!.

لم يرض "الجهاز المناعى" للجماعة بخطوات حبيب التى طرح فيها شأن الجماعة الخاص أمام الرأى العام، لم يقبل من تعوَّد على السرية أن يستيقظ ذات يوم فيجد النائب الأول للجماعة وهو يتحدث للناس ببساطة عبر الصحف والقنوات الفضائية عن مشاكل الجماعة الداخلية وعن غضب المرشد وضيق صدره، وعن اللائق وغير اللائق، وزاد الطين بلة أن أبدى حبيب رأيا علنيا على شاشات القنوات الفضائية يخالف رأى القطبيين فى شأن تصعيد العريان لعضوية مكتب الإرشاد فكانت عاقبته "قصف الرقبة" و"فقأ العين" فمثل هذا الحديث كانت تطير من أجله رقاب لو همس به أحدهم فى السر بينه وبين إخوانه، فما بالك بمن يؤذن به وهو جالس على أعلى قبة فى الجماعة، ورغم أن ما فعله حبيب يُحمد له لو فهم الجاهلون.. إلا أن أوانه كان قد آن وآن للقطبيين أن يقطفوا ورقته من شجرتهم إذ لم يكن منهم، ولن تطرح ثمرته يقينا على شجرة الصبَّار التى غرسوها فى قلب الجماعة.

رحلة حبيب تختلف عن رحلة بديع رغم أنهما ولدا فى العام ذاته، فبديع ولد لأسرة متوسطة الحال فى المحلة الكبرى لأب متدين بالفطرة وحين شب الابن عن الطوق تقابل مع عبد الفتاح إسماعيل أحد رجال سيد قطب فتعرف عليه وتأثر به ومن خلاله تقابل مع قطب وقرأ "فى ظلال القرآن" وحفظ "معالم فى الطريق" فدخل التنظيم القطبى وأصبح قطبياً حتى النخاع فى الأفكار والوسائل، آمن بديع بجاهلية المجتمع المسلم وجاهلية أفراده تلك الجاهلية التى استورد قطب معالمها من المودودى، فأصبح الفلاح المصرى المسلم المتدين بالفطرة فى عرف بديع وقانونه مستغرقا فى جاهلية أشد ضراوة من جاهلية القرون الأولى، وإذ انكشف الستار عن هذا التنظيم دخل بديع السجن رفيقا لمحمود عزت وقرينا له، وبعد أن خرج من محبسه ابتعد عن الجماعة وسافر إلى اليمن لسنوات مبتعدا عن التلمسانى الذى لم يرق له ولم يستطع العمل مع الإخوان تحت إمرته، ثم عاد بديع وصحبه إلى مصر بعد أن أذَّن مؤذنهم بعودتهم بعد أن مات التلمسانى.

أما محمد حبيب فقد نشأ فى أسرة دمياطية فقيرة نالت شظف العيش بعد أن مات أبوه فكفله خاله، وفى مجتمع فاعل ومنتج كمجتمع مدينة دمياط يؤمن بأن "الحركة بركة" لا يستقيم أن يركن الصغير إلى الدراسة فقط ويهجر العمل والحركة.. من أجل ذاك خرج الصغير حبيب إلى العمل فأصبح وهو الذى لم يتجاوز الثامنة من عمره صبيا فى أحد ورش النجارة، ومن تلك الورش عرف حبيب التجارة والمفاوضة والمساومة إلا أنه أيضا شرب على مهل صفات الصبر والمثابرة والجدية تلك الصفات التى أشربتها أنسجته وأصبحت جزءاً من شخصيته.. تفوق حبيب فى دراسته والتحق بكلية العلوم التى تخرج منها حاصلا على مرتبة متقدمة فأصبح معيداً فى قسم الجيولوجيا، وبعد حين حصل على الدكتوراه ثم أكمل دراساته فى أمريكا فى مجتمعات مفتوحة يعمل الجميع فيها تحت الشمس.

تعرف حبيب على الإخوان فى أول الأمر عن بُعد وجذب نظره إليهم تضحياتهم والمحن التى تعرضوا لها فى سجون الحقبة الناصرية، إلا أنه مارس الخطابة فى المساجد بعيداً عن جماعة الإخوان فقد كان عضواً نشيطاً بالجمعية الشرعية فى أسيوط، تلك المدينة التى جعلها مستقرا له حين عمل بجامعتها.

انخرط حبيب فى أنشطة جمعيات نوادى أعضاء هيئات التدريس، وتغيرت حياته عندما تعرف على الإخوان عن قرب عندما التقى بالمرشد الثالث عمر التلمسانى فى أواخر السبعينيات، حينها صار حبيب إخوانياً من رجال التلمسانى، إلا أن مصطفى مشهور ورجاله من القطبيين أنكروه واعتبروه من الوافدين للتنظيم عن غير طريقهم وبغير أفكارهم فأضمروا له فى أنفسهم.

ومن بعد دخل حبيب فى تلك النخبة السياسية التى سيقت إلى السجون زمراً فى أحداث سبتمبر الغاضبة من عام 1981، وبعد أن خرج من محبسه وضعه التلمسانى فى تلك المجموعة التى أعادت بناء الجماعة من جديد مع عبد المنعم أبو الفتوح والسيد عبد الستار المليجى وأبو العلا ماضى وإبراهيم الزعفرانى، فكان حبيب هو مسئول قطاع الصعيد بأكمله، وكان أبو الفتوح هو مسئول القاهرة، أما الزعفرانى فكان مسئول الإسكندرية.. آنذاك كان مصطفى مشهور يبنى تنظيماً آخر فى الخارج بعد أن فر من مصر قبل الاعتقالات ـ وكان قد عرف بأمرها قبل أن تتم من أحد مصادره الخاصة ـ وبعد أن عاد مشهور من غربته الاختيارية ومعه تنظيم حديدى أخذ يعيد ترتيب الأوراق من جديد فابتعث بديع ابن المحلة ليكون مسئولا عن بنى سويف من أجل إقصاء الحاج حسن جودة عضو مكتب الإرشاد والمقرّب من التلمسانى!! وابتعث رجله محمود حسين ليكون مسئول الصعيد بديلا لحبيب!!.

كان هذا التغيير بمثابة إشارة البدء فى إقصاء حبيب غير أن المرشد التلمسانى لم يرض لتلميذه بهذا الإقصاء فعينه عضوا بمكتب الإرشاد، وبوفاة التلمسانى وجد حبيب نفسه غريباً لا جناح له فصنع لنفسه ـ بشطارته الدمياطية ـ جناحا حين مد يده لحامد أبو النصر المرشد الرابع ابن أسيوط، ومن خلاله اقترب بحذر التاجر من مصطفى مشهور الذى كان قد أصبح الرجل الحديدى فآمن له مشهور ـ إلا قليل ـ.

وبعد أن تغيرت تركيبة الجماعة استطاع حبيب أن يحتفظ بتوازنه واستطاع أن يمسك عصا الجماعة ردحاً من الزمن من منتصفها.. فحبيب هو حبيب لخيرت الشاطر وهو مستشار مهدى عاكف وهو صديق لمحمود عزت، ومن أجل هؤلاء ابتعد بمقادير طفيفة أحيانا وشديدة الاتساع حيناً آخر عن رفاقه أبناء التلمسانى بل كان ذات يوم أحد أكبر الذين ساهموا فى إقصاء مختار نوح لحساب محمود عزت، وأحد الذين ساهموا فى تقليم أظافر عبد المنعم أبو الفتوح، ولكن هل ترضى عنه قلوب السريين والقطبيين، لم يرد على خاطر حبيب أن قلوب هؤلاء لن ترضى عنهم حتى يتبع ملتهم.

ورغم الخلاف الذى كان بينى وحبيب ـ غفر الله لى وله ـ إلا أننى أشهد أنه أحد رموز الإخوان التى تملك عقلا واعيا وفهما مستنيرا وحضورا سياسيا واجتماعيا ودعويا فريدا، وخطابا إسلاميا متوازنا.. كان هذا الرجل نقطة التقاء بين فريق المحافظين وفريق الإصلاحيين.. بين الجماعة بأسرها والأطياف السياسية مجتمعة.. كان من شأن هذا الرجل أن يحفظ توازن هذه الجماعة وأن يستبقى قدرا من رشدها فى عقلها ولكن بخروجه من موقعه ـ هو وعبد المنعم أبو الفتوح ـ فقدت الجماعة ميزانها الحساس وعقلها الراشد.

وبعد أن فرغت جماعة الإخوان من نحر محمد حبيب نائب المرشد والتضحية به فى مسلخ الإخوان الكائن بمنيل الروضة وإسقاطه فى انتخابات شهد الجميع أنها كانت موجهة وبلا ضمانات وبلائحة معيبة وإجراءات باطلة، الأمر الذى دعا بعض الإصلاحيين الذين صدموا من وطأة البطلان إلى القول بأن الجماعة ليس من حقها بعد الآن الحديث عن تزوير أى انتخابات أو بطلان وعدم دستورية أى قانون! فصاحب البيت الزجاجى لا يحق له أن يقذف بيوت الناس بالحجارة، كما لا يحق لهذه الجماعة أن تطالب بالإصلاح ففاقد الشىء لا يعطيه ومن فقد مصداقيته فالأحرى به أن يبحث له عن كهف يؤويه.. ووسط هذا الضجيج والاعتراض والرفض والتشكيك خرج محمد بديع ابن سيد قطب الأثير إلى الرأى العام لكى يقول لنا "جماعة الإخوان سائرة على نهج سيد قطب"!! .. وداعاً محمد حبيب ميزان الجماعة وبوصلتها، وداعا عبد المنعم أبو الفتوح عقل الجماعة الراشد، وداعا جماعة الإخوان التى كانت حبيبة إلى قلوبنا، ولا مرحبا بالقطبيين الذين لا نعرفهم.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة