على مائدة الحزب الوطنى الديمقراطى فى مؤتمره الأخير، تناثرت ملفات ساخنة شتى .. وكان الهم الثقافى حاضرا فى المناقشات والتوصيات، غير أن المهمومين به - المثقفين - لم يكونوا موجودين..!
غياب المثقف عن الحزب الوطنى ليس بجديد، بعض المثقفين يتكلمون عن خصام بينهم وبين الحزب، يراهنون على أنه إذا تصدى أحد لإحصاء المثقفين داخل صفوف الحزب الوطنى فلن يتخطى عددهم أصابع اليدين..
ومهلا لمن سيبادر إلى فهم هذه السطور فهما خاطئا، نحن هنا بصدد الحديث عن المثقفين المبدعين فى شتى المجالات من أدب إلى فن إلى نقد، وكذا هؤلاء المثقفون من كبار الكتاب أصحاب البصر والبصيرة، ذوى القدرة على التحليل ووضع الأطر والصياغات للمستقبل فى إطارها العقلانى الصحيح، نحن لا ننكر وجود سياسيين كبار وعقول مستنيرة وأصحاب ثقافات مهمة داخل صفوف الحزب، لكن شخصية المثقف المصرى القادر على الوصول إلى الناس مباشرة من خلال كتاباته وإبداعاته المختلفة ليس موجودا - بكل أسف - فى الحزب، بل إنه ليس مدعوا إليه !
ففى الحزب الوطنى أمانة للتثقيف الحزبى والشأن الثقافى ملحق عليها فى الحزب، مع أن ثمة فارقا شاسعا بين الثقافة بمفهومها الأشمل وبين التثقيف الحزبى، وكأن الحزب يجد فى الشأن الثقافى ترفا حزبيا لا يليق به أن تكون له لجنته الخاصة!
أقول هذا وأنا موقن بأن عقلاء الحزب وكبار مبصريه يدركون جيداً أن المعركة ضد الإرهاب فى التسعينيات - على سبيل المثال - كان السند الأساسى فيها إلى جوار حكومة الحزب، هم هؤلاء المثقفين، الذين استبدلوا النشاط الحزبى بالجلوس فى أركانهم المفضلة فى مقاهى وسط البلد، واختاروا أن ينأوا بأنفسهم بعيدا عن المعترك (السياسى بعد أن رأوا أكبر الأحزاب ينأى عنهم ولا يدعوهم للمشاركة! فإن دعوا فإنما يدعون من أحزاب المعارضة.. ونادرا ما يلبون!
الحزب الوطنى وهو يمضى الآن محققاً خطوات كبيرة ومتطورة على طريق بلورة أجندة حزبية حيوية ومشتبكة مع هموم الشارع والقرية، يتعين عليه إعادة النظر ومصارحة ذاته فيما يخص علاقته بالمثقفين الذين أسسوا أحزاب المقاهى المستقلة بدلا من الإسهام الفاعل فى الساحة السياسية التى تحتاج - كثيرا وكثيرا جدا - إلى عصارة إبداعهم وفكرهم الوطنى.
وأعلم أن هناك ميراثا غير محمود الذكر بين المثقف والسلطة فى مصر، دفع معظم المثقفين المصريين ثمن اختلافهم مع السلطة فى عصر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فقضوا نحو خمس سنوات معتقلين معذبين منفيين فى معتقل الواحات وسجون مصر النائية والدانية، وأعلم أنهم فى عصر الرئيس الراحل السادات ألقوا فيه، والذى أودع فيه مثقفون وطنيون كثيرون غياهب 1981 التى سماها الرئيس الراحل بـ(انتفاضة الحرامية)، وفى سبتمبر الشهير 1977 السجون مرتين، فى انتفاضة السجون.. وأعلم - ثالثا - أن هذه الظلمات وتلك المظالم التى قاسوها فى المعتقلات والسجون جعلتهم يبتعدون بإرادتهم عن السياسة والحزبية، وإن ظلوا الأكثر بصيرة والقابضين - سرا وعلنا - على جمر حب الوطن!
لكن الرئيس مبارك حين تولى المسئولية استهل عهده بإطلاق المثقفين من غياهب السجون والتقى بهم وتحاور معهم، وانفتحت لهم صفحات الجرائد والمجلات ومنابر الثقافة والإعلام الرسمية وغيرالرسمية، بل وصل بعضهم إلى مناصب ثقافية مرموقة، ولم تندم الدولة على هذا التوجه، فالرئيس مبارك راهن على وطنيتهم واستنارتهم ونجح رهانه، غير أن أبواب الحزب الوطنى ظلت موصدة دونهم!
إن الثقافة هى السلاح الوحيد لتخليد السياسة، ونحت الإنجاز الوطنى فى جدار الزمن نحتا لا يمحى، الثقافة التى تصل إلى الناس فى عقر دارهم وتصوغ وجدانهم الحى وتتوارثها الأجيال كابرا عن كابر، من الذى خلد الإصلاح الزراعى؟ أليست أغنية مثل (فدادين خمسة)، ومن الذى خلد حدث الثورة ؟ أليست أغنية (عالدوار عالدوار) أو فيلم مثل (رد قلبى)؟ من الذى خلد السد العالى؟ أليس حليم بأغنيته الشهيرة (قلنا ح نبنى وادى احنا بنينا السد العالى)؟ أليست أغنية (الوطن الأكبر) هى التى خلدت ولاتزال توجه مصر القومى العربي؟ أليست أعمال يوسف إدريس ونعمان عاشور وصلاح عبدالصبور وصلاح جاهين وأغانى حليم وأم كلثوم وأفلام سعاد حسنى هى التى خلدت العصر الناصرى وحولته إلى حلم فى كل القلوب فى ذلك الزمن؟!
إذن، نحن أمام سلاح لا شك فى قوته، يرسم ملامح الإنجاز فى قلوب الناس ويجعلهم أكثر تواصلا مع ما يتحقق، هل من أغنية أو فيلم أو عمل فنى خلدت إنجازات الكهرباء أو البترول أو مترو الأنفاق أو الأراضى التى توزع على الشباب والفلاحين؟ هل من فنون أو آداب خلدت الإنجازات الضخمة التى تحققت وتتحقق فى عصر الرئيس مبارك ؟ مفارقة حزبية غريبة وغير مفهومة، لاسيما انها تقع فى عصر الرئيس مبارك الذى اطلق الحريات للمثقفين المصريين يقولون ويكتبون ويعبرون كيفما يشاءون؟! لابد من وجود كيان داخل حزب خاص بالثقافة والإبداع، يستطيع أن يجتذب الكتاب والفنانين والنقاد والمنظرين والمحللين،هؤلاء هم الذين حملوا على أكتافهم كل المشاريع السياسية، فلماذا لا يدعون للمشاركة فى المشروع السياسى الطموح للحزب الوطنى؟!
• نقلا عن المصور
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة