باختصار.. شهدت القاهرة وعاشت أسبوعا كاملا وهى تحاول إقناع أهلها وبقية المصريين بأن فاروق حسنى لم يسقط ولم يخسر انتخابات اليونسكو.. وإنما كان ضحية لمؤامرة فجة ووقحة شارك فيها اليهود وأوروبا والولايات المتحدة.. وأن المؤامرة لم تكن ضد فاروق حسنى بشخصه ولكن ضد أى إنسان مصرى أو عربى أو مسلم.. أى أنت وأنا وكل هؤلاء الآخرين.. وأن فاروق حسنى دفع طائعا وراضيا ثمن مصريته وعروبته وإسلامه.. ومع محاولة القاهرة المحمومة لإثبات ذلك.. كانت هناك محاولة أخرى لتصوير الأمر على أن النتيجة الحقيقية لانتخابات اليونسكو لم تكن خسارة فاروق حسنى، وإنما كانت فى معناها الحقيقى انتصارا رائعا للدبلوماسية المصرية وإثباتا لقدراتها وتأثيرها ومكانتها.. ومحاولة ثالثة لتصوير ما جرى على أنه مجرد فصل جديد من حرب الحضارات أو صراعها وصدامها.
وأنا الآن أملك الشجاعة الحقيقية لأعترض وأرفض كل تلك المحاولات.. فالهدوء والتأمل سيخرج بأى واحد منا بأن ما جرى فى انتخابات اليونسكو لم يكن مؤامرة قام بها أى أحد ضد أى أحد.. ولم تكن هناك خيانة على الإطلاق.. ولست أعرف من أين جاء الكثيرون بجرأة الزعم بأن اليهود قاموا بمؤامرة لإسقاط فاروق حسنى.. فالحقيقة هى أن اليهود لا يريدون.. لم يريدوا أبدا ولن يريدوا مطلقا أن يجلس أى إنسان عربى على أهم وأشهر مقعد ثقافى عالمى.. والتآمر يعنى ازدواج المعايير أو الرؤى.. وهو ما لم يحدث أبدا.
فاليهود واضحون تماما بهذا الشأن.. لا هم يريدوننا ولا نحن نريدهم.. ولو قرر أى مسئول إسرائيلى ترشيح نفسه مديرا عاما لليونسكو.. لوقفت مصر والعرب جميعهم ضد هذا الترشيح، ولكانوا على استعداد لأى ثمن مالى أو سياسى من أجل إسقاط هذا الإسرائيلى، ولم يكن ذلك ليعنى أن العرب تآمروا على الإسرائيلى أو على إسرائيل كلها واليهود جميعهم.. وإنما هذا هو الوضع الطبيعى الذى يسهل جدا توقعه واستباقه.
وعلى سبيل المثال حين تقدمت أربع دول عربية بطلب للفيفا لتنظيم كأس العالم لكرة القدم عام 2010.. جرى سلفان شالوم.. وزير خارجية إسرائيل وقتها ليجتمع مع جوزيف بلاتر رئيس الفيفا وقال له عبارته الشهيرة وهى إن إسرائيل ما كانت لتقبل أو لتوافق أو لترضى أن تحظى أى دولة عربية بمثل هذا الشرف.. وقال شالوم إن إسرائيل لن تتردد فى استثمار كل يهود العالم بكل نفوذهم وعلاقاتهم وأموالهم من أجل أن تنتصر جنوب أفريقيا على كل الدول العربية مجتمعة.. ثم إن الولايات المتحدة وأوروبا أحرار فى اختيار من يمنحونه أصواتهم.
ولو قرر أى مسئول مصرى ترشيح نفسه لأى منصب أفريقى.. فسيعتقد هذا المسئول المصرى أنه يضمن أصوات العرب الأفارقة.. ولو لم تصوت له أى دولة عربية أفريقية فسنعتبر ذلك خيانة وجريمة حقيقية ومكتملة الأركان.. فلماذا إذن لا أمنح نفس هذا الحق لدول أوروبية قررت منح أصواتها لمرشحة أوروبية.. وبدون أن تكون هناك أى مؤامرة.
ولكن يبدو أنها ظاهرة مصرية صميمة وحقيقية ودائمة.. فنحن خسرنا حرب يونيو 1967 لأن الغرب تآمر علينا وليس لأننا بلغنا وقتها من التفكك والترهل أمرا كانت الهزيمة معه ضرورية وطبيعية ومنطقية.. ومنذ ذلك التاريخ ونحن لا نخسر أبدا.. وإنما هى سلسلة من المؤامرات تطاردنا طول الوقت.. ونحن ضحايا وأبرياء وشرفاء والعالم من حولنا هو الذى يحكمه الخونة والسفلة والمتآمرون.
والسؤال الحقيقى هنا هو: هل لم يكن فاروق حسنى يعرف ذلك وهو يقرر ترشيح نفسه لإدارة اليونسكو؟.. لو لم يكن يعرف فهو لم يعد يستحق أن يبقى حتى وزيرا لثقافة مصر.. ولو كان يعرف.. فعليه الآن أن يسكت وأن يعتذر للمصريين على كل ما تكبدوه من أموال ونفقات طيلة عام كامل قضاها يجوب العالم لمواصلة دعايته الانتخابية.. وليس عيبا أن يسقط.. ففى كل انتخابات هناك من ينجح ومن يخسر.. والعالم كله يعرف أنه ليس من الضرورى أن ينجح الأحسن أو الأفضل.. والعالم كله أيضا يعرف أن من يخسر أى انتخابات.. لن يعنى ذلك أن يخسر مكانته أو كبرياءه أو شرفه ومكانته.. ولكنه عالم ديمقراطى ونحن لسنا كذلك.. عالم تحركه المصالح ونحن تحركنا العاطفة والأغانى وكتب التاريخ.. عالم اتفق منذ زمن طويل على أن القوة هى التى تصنع الحق وتحدده وتصيغ ملامحه، وبقينا نحن وحدنا نجهل ذلك لأننا لم نعد نملك قوة أو مكانة أو نفوذا أو قدرة وبات الأسهل دائما أن نتحدث عن المؤامرة والخيانة والانتصار الحقيقى الذى لا يراه ولا يحتفل به ولا يحترمه أو يتحدث عنه أحد غيرنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة