تصريحات غامضة أطلقها مصدر إسرائيلى قبل أسبوعين وأوردتها بعض وكالات الأنباء، تحدثت عن دراسة قانونية تقوم بها وزارة الدفاع الإسرائيلية تستهدف إخلاء بعض أحياء شمال غزة من سكانها وتهجيرهم إلى الجنوب على الحدود المصرية.
لايجب أن يمر هذا التصريح مرور الكرام، فما يتضمنه من معانى ودلالات يتجاوز بكثير الألفاظ التى يستخدمها، كما أنه يتجاوز بمراحل مشكلة تأمين سكان المدن الإسرائيلية من صواريخ حركة حماس.
فالتصريح منسوب إلى مصدر قريب من وزير الدفاع الإسرائيلى، وفى ذلك دلالة على أهمية التسريبات ، ومدى المرحلة الخاضع لها بحث الخطة، واقترابها من دخول دائرة قرار التنفيذ الفعلى بعد مرور نحو 8 سنوات على الإعلان عن خطة "حقل الأشواك" التى تستهدف تفريغ أجزاء من الأراضى الفلسطينية وترحيل أهلها إلى الدول المجاورة .
ماذا يعنى إخلاء أحياء من شمال غزة؟
يعنى أولاً تهجير نحو 280 ألف مواطن فلسطينى من الشمال يمثلون نحو ربع عدد سكان القطاع وترحيلهم إلى الجنوب ليتكدسون قرب الحدود المصرية وسط معاناة الجوع والحاجة وتحت ضغط الحصار وقذائف القتل الإسرائيلية.
ويعنى ثانياً العودة إلى سيناريو اختراق الحدود المصرية وانتهاك السيادة الوطنية من الفلسطينيين للهروب من الجحيم، بكل ما يمثله ذلك من خطر على الأمن القومى المصرى وسيادة مصر على أراضيها، وما قد يترتب على ذلك من تهريب أسلحة أو إرهابيين وخلافه إلى مصر لتنفيذ عمليات ارهابية تدخل مصر دائرة عدم الاستقرار وتهدد أوضاعها الاقتصادية ودورها الاستراتيجى بالمنطقة.
ويعنى ثالثاً خلق واقع جديد يستهدف الضغط من أجل توطين الفلسطينيين فى قطاع من سيناء، ليتحول هذا القطاع إلى امتداد للوطن الفلسطينى وبديل لشمال غزة الخالية من السكان، فى إطار مخطط لإدخال المنطقة كلها ضمن خطة مبادلة الأراضى التى أعلنت عنها منذ سنوات وتستهدف استقطاع أجزاء من مصر والأردن تضم إلى الضفة والقطاع لتشكيل الدولة الفلسطينية.
ويعنى رابعاً أن إسرائيل تستهدف الضغط من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة، وإدخال الفلسطينيين والمصريين على وجه التحديد فى مواجهات من أنواع مختلفة، يفقد بها الفلسطينيون جزءاً أساسياً من الدعم العربى، وتفقد بها مصر جزءاً مهما من دورها الاستراتيجى والسياسى فى المنطقة.
خطة تفريغ أحياء من شمال قطاع غزة وتهجير سكانها إلى الجنوب لا يمكن النظر إليها بمعزل عن تصور إسرائيلى متكامل سبق طرحه قبل سنوات فى مراكز الأبحاث الإسرائيلية والاستقرار على تفاصيل عديدة منه.
الخطة التى تم الاستقرار عليها وتطويرها بدأت عام 1996 وعرفت باسم "حقل الأشواك" لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية، وهى تقوم أساساً على تطويق المدن أو الأحياء سواء فى الضفة أو غزة وتعريضها لنيران شديدة وقتل سكانها واغتيال القادة أو اختطافهم بعمليات متنوعة، براً وجوا لإرهاب السكان وإجبارهم على الفرار من مدنهم أو أحيائهم.
وتطورت الخطة إلى مرحلة جديدة تمثل الجزء الأخير من الخطة أو خطوتها المتقدمة وتستهدف التخلص نهائياً من غزة كجزء من المناطق الفلسطينية وإجبار أكبر عدد من سكانها على الرحيل إلى مصر.
التصور الأخير طرحه بروفيسور أمريكى يدعى أنتونى كوردسمان عام 2000 على مراكز الأبحاث الأمريكية، وصادقت عليه حكومة إيهود باراك بعد أشهر قليلة، وعادت الحكومة الحالية تحت قيادة أولمرت لتسريب الخطة وبحث إمكانية تطبيقها فى مواجهة صواريخ القسام وحركة حماس التى تستخدمها إسرائيل الآن لتبرير مخططها الأكبر والأخطر.
التطورات الحاصلة تؤكد أن إنهاء الانقسام الفلسطينى لم يعد مطلبا وطنيا فلسطينياً وإنما مطلب عربى لحماية القضية الفلسطينية من أبنائها ومن أعدائها على حد سواء، كما تؤكد أن الحديث المتواصل عن استخدام الصواريخ الحمساوية للضغط على إسرائيل فى غياب استراتيجية متكاملة ليس أكثر من لغو لا معنى له سوى الإضرار بالمصالح الوطنية.
لقد أصبحت حركة حماس مطالبة الآن بتغليب مصلحة شعبها على مصلحتها التنظيمية والايديولوجية من جانب، وأصبحت الآن أيضا مطالبة بالتوقف عن أساليب ستؤدى حتماً إلى الإضرار بالقضية الفلسطينية وتلزم أنصارها من العرب الدفاع عن أوطانهم فى مواجهة مخططات تستهدف العصف بها.
لم يحدث فى تاريخ البشرية أن قررت حركة استقلال وطنى خوض الكفاح المسلح لمجرد المواجهة مع العدو، وإنما باعتباره وسيلة من أجل التفاوض واستعادة الحقوق المشروعة، وحماس لم تقدم حتى الآن ما يفيد توافر هذه الرؤية لها .
إن الجهود التى تبذلها الإدارة المصرية للتوفيق بين الفصائل الفلسطينية لا تستهدف فقط القضية الفلسطينية وإنما حماية الوطن من مخاطر مخططات ستؤدى إلى الإضرار بمصالحها العليا، خصوصاً أن مصر رفضت وستظل ترفض أية أجندات أجنبية للتفريط فى سيادتها الوطنية، أو أية خطوة تؤدى إلى انتهاك حدودها .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة