هل تعلم عزيزي القارئ أن من أوائل المقاييس التي استخدمت في بدايات القرن الماضي على نطاق واسع لقياس الذكاء البشري، وتم تطويرها لاحقًا ليصبح مقياس اختبار الذكاء المعروف اليوم باسم (IQ Test)، هو مقياس "ستانفورد– بينيه للذكاء"؟ هذا الاختبار كان مخصصًا لتقييم القدرات الذهنية و المعرفية للأفراد من عمر عامين وحتى 89 عامًا، وتم بناءه على أساس المقياس الأصلي الذي وضعه العالم الفرنسي ألفريد بينيه تحت مسمى "مقياس بينيه–سيمون" في عام 1906.
لكن ما قد لا يعلمه البعض أن جامعة ستانفورد نفسها لم تصدر هذا المقياس بشكل مؤسسي، بل الذي قام بتطويره ونشره عام 1916 هو عالم النفس لويس تيرمان أحد أساتذة جامعة ستانفورد العريقة. ومنذ ذلك الوقت، وربما قبلها بكثير، صار من المعتاد أن يُنسب المقياس أو المؤشر العلمي إلى الجامعة التي ينتمي إليها الباحث، تكريمًا لها واعترافًا بدورها في رعاية واحتضان الباحث الذي طور البحث من خلال ما أتاحته الجامعة من معامل وبيانات، دون أن تكون الجامعة هي الجهة المباشرة التي تصدر المؤشر أو تتحمل مسؤوليته الرسمية.
ومقياس (ستانفورد– بينيه) ليس هو المثال الوحيد على ذلك، فهناك العديد من المؤشرات والتصنيفات العلمية التي ارتبطت أسماؤها بالجامعات التي نشأ فيها أصحابها دون أن تكون الجامعات هي الجهة المصدرة لها. على سبيل المثال، التصنيف الصيني واسع الانتشار "تصنيف شنغهاي" أو التصنيف الأكاديمي للجامعات العالمية (ARWU)، لم يصدر عن جامعة شنغهاي ذاتها، وإنما أعده فريق بحثي بجامعة شنغهاي جياو تونغ عام 2003، ثم تبنته في عام 2009 شركة "شنغهاي للاستشارات" والتي تمتلك حقوقه الفكرية حتى اليوم.
وبناءً على هذا العرف غير الغريب ولا المستهجن في الأوساط الأكاديمية، ليس من المستغرب أن تُنسب "قائمة ستانفورد" للعلماء الأكثر تأثيرًا في العالم إلى جامعة ستانفورد، رغم أن الجامعة ليست هي الجهة المصدرة له. بل إن القائمة تُنشر سنويًا من قِبل فريق بحثي من الجامعة في مجلة علمية محكّمة، وباعتماد كامل على بيانات الناشر الدولي إلسيفير (Elsevier) وبإذن منه لاستخدام بياناته في تطوير هذا المؤشر الذي تعتمد عليه القائمة في ترتيب العلماء. وبالتالي، فإن ربط اسم القائمة بجامعة ستانفورد أمر طبيعي ومشروع ومعتاد عليه في الأوساط الأكاديمية، ولا ينطوي على أي مخالفة، بل يُعَدّ تكريمًا للجامعة التي رعت واحتضنت الفريق البحثي.
وقد لاحظت في الأيام الأخيرة وجود بعض الاعتراضات حول القائمة وجديتها وأهميتها، وتدور حول ملاحظتن، الأولى خاصة بالجدل حول نسبتها إلى جامعة ستانفورد، وقد أوضحت هذا الأمر في بداية المقال، وأنه أمر شائع ومتعارف عليه في المجتمع الأكاديمي ولا يعتبر مخالفًا للأعراف الأكاديمية. الثاني وهو الأهم كان حول التشكيك في صلاحية المؤشر نفسه، لأنه يعتمد على عدد الاستشهادات العلمية باعتباره معيارًا أساسيًا لتقييم الباحثين. والاستشهاد العلمي يعني قيام باحثون آخرون بالاستشهاد بواحد أو أكثر من أبحاث العالم في بحثهم المنشور فيمجلة علمية مفهرسة في قواعد بيانات سكوبس.
وفيما يخص الاعتراض الأخير، فأنه لا يوجد أكاديمي ينكر أهمية الاستشهادات العلمية، فهي تدل – في أغلب الأحوال – على أن البحث وصل إلى نتائج علمية موثوقة تصلح للبناء عليها في أبحاث أخرى. صحيح، ومن الوارد، أن بعض الاستشهادات تأتي بغرض النقد أو التفنيد، لكن يبقى الاستشهاد نفسه دليلاً على أن البحث كان حاضرًا ومؤثرًا في النقاش العلمي المجتمع الأكاديمي العلمي، ولا يعني وجود نقد لبحث أن قيمته ضعيفة أو أنه يقدم نتائج مغلوطة، بقد ما أنه أثار الاهتمام والدراسة والبحث.
من ناحية اخرى فإن قائمة ستانفورد لا تعتمد فقط على معيار عدد الاستشهادات، بل تشمل معايير إضافية مثل مؤشر H-index، الذي يُحسب من خلال عدد الأبحاث المنشورة في مجلات مصنفة ضمن قاعدة بيانات سكوبس (Scopus)، وهي قاعدة بيانات تعتمد على معايير صارمة في إدراج المجلات (كطريقة التحكيم العلمي ووجود هيئات تحرير موثوقة ودولية). وفي كثير من التخصصات العلمية التي تتضمنها قائمة ستانفورد، لا يمكن للباحث أن يظهر في القائمة إلا إذا تجاوز مؤشر H-index لديه 30 نقطة على الأقل، وهو ما يعني أن لديه 30 بحثًا على الأقل استشهد بكل منها 30 مرة أو أكثر في أبحاث دولية منشورة في مجلات مفهرسة، وهو معيار لا يتحقق إلا لدى باحثين ذوي إنتاج علمي رفيع المستوى.
ولذلك فإن إدراج اسم باحث في قائمة ستانفورد هو – في الغالبية العظمى من الحالات – تعتبر شهادةً لجودة أبحاثه وتأثيره العلمي الحقيقي في المجتمع الأكاديمي الدولي. بالطبع هناك استثناءات نادرة لباحثين قد يدخلون القائمة بطرق غير أخلاقية، مثل الاتفاق مع زملاء في نفس المجال على تبادل الاستشهادات، لكن هذه الحالات تُكتشف مع مرور الوقت، ويتم التحذير منها في الأوساط الأكاديمية.
واقع الحال يقول أن الاستشهادات اليوم ليست معيارًا لتقييم الباحثين فقط، بل هي أيضًا أساس في تقييم جودة المجلات العلمية نفسها والتي يسعى الباحثون للنشر فيها لأنها مرتفعة التأثير، فمعامل تأثير المجلة يحسب من خلال عدد الاستشهادات بأبحاثها. كذلك فإن الاستشهادات لها أهمية كبيرة في ترتيب الجامعات عالميًا في القسط الأكبر من التصنيفات الدولية مثل تصنيف شانغهاي، وكذلك في مختلف المؤشرات الدولية الخاصة بالبحث العلمي. وبالتالي فإن إنكار أهميتها في تقييم الباحثين يعني ضمنًا رفضًا لكل آليات التقييم الأكاديمي المتعارف عليها دوليًا في عصرنا الحالي. من حق المعترض بالطبع أن يرفضها لعدم قناعته بها، لكن ذلك لن يلغي أهميتها ومكانتها في عالم اليوم فهي المقياس الموضوعي الكمي الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في قياس التأثير البحثي. نعم هناك جوانب أخرى لقيمة البحث العلمي وتأثيره، ولكنها في الأغلب جوانب كيفية لا يمكن قياسها بطريقة موضوعية.
في النهاية أؤكد أن عدم وجود اسم باحث في قائمة ستانفورد لا يقلل من قيمته أو جودة إنتاجه مقارنة بأعمال الأفراد المدرجين في القائمة، وإنما قد يعني ببساطة أن أبحاثه لم تحظ بعد بالاهتمام الكافي من المجتمع الأكاديمي الدولي لسبب أو لأخر. وعلى الجانب الآخر، فإن وجود باحث في القائمة لا يجعله بالضرورة أفضل من زملائه في التخصص، لكنه يؤكد أن إنتاجه العلمي كان محل تقدير واهتمام واسع انعكس في حجم الاستشهادات والانتشار الدولي، ومن هنا كان لزاماً على جامعته تكريمه والاعتراف بجهده البحثي.