ما زلنا مع الحديث عن الحضارة المصرية القديمة، وكيفية التفاعل معها، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة.
منذ فترة قرأت عبارة ساخرة لصديق عزيز كان يقول فيها ما معناه لا يهم أن يكون الهراء علميا، بل المهم أن يتخذ "شكل" العلم..
هذه واحدة من مشكلات تناول البعض للحضارة المصرية القديمة، فبدلا من اتباع خطى علماء المصريات، وطرق البحث التاريخية والأثرية، تراهم يمزجون نتاج شطح مخيلاتهم مع "أقاويل"، غالبا شعبية، من هنا وهناك، ويخرجون علينا بهرائهم هذا ولكن فى شكل حديث علمى منمق ولغة رصينة منظمة.
إليكم أمثلة لهذا الهراء:
الهرم بناه الفضائيون قبل الحضارة المصرية بقرون.
اليهود هم من بنوا الأهرامات وهم يئنون تحت سياط الفراعنة الأشرار.
الهرم ما هو إلا مركز من مراكز الطاقة الكونية.
المصريون القدماء استعانوا بالجن والسحر لبناء الأهرامات
قوم عاد هم بناة الأهرامات.
الحضارة المصرية القديمة حضارة سوداء، وورثتها هم أبناء العرق الأفريقى الأسمر وعلى رأسهم الأمريكيون من أصول أفريقية.
المصريون القدماء كانوا عمالقة وبنوا الأهرامات، والمعابد كما يبنى الطفل بيتا من المكعبات.
المصريون القدماء عرفوا الكهرباء والليزر.
إلى آخر هذه "النظريات" الكفيلة بإصابة هرم خوفو نفسه بالضجر!
حسنا، يمكننا أن نفهم ادعاء البعض أن اليهود هم بناة الأهرامات -التى تسبق ميلاد موسى عليه السلام نفسه بقرون-فأصحاب هذا الادعاء يؤمنون أن العالم كله خُلِق لأجل "الشعب اليهودي" المزعوم، فلن نضيع الوقت فى مجادلتهم.. ونفس الشيء تقريبا ينطبق على دعاة المركزية الأفريقية أصحاب ادعاءات الأصل الأسود لحضارة مصر القديمة.
أما أصحاب الهرائيات الأخرى فالمُلاحَظ أنهم لا يستخدمون تعبيرات مثل "أرجح كذا" أو "يُعتَقَد أن كذا" -بينما يستخدمها أهل العلم الحقيقى بحكمة وموضوعية - بل تتخذ عباراتهم صيغ الحسم والتقرير بثقة لو كانت عندى نصفها لتطلعت إلى حكم العالم.
ربما يتسائل البعض: ولماذا "تحظى" الحضارة المصرية القديمة بالذات بهذه النوعية من الادعاءات؟ دعونى أؤكد لكم أن مثل تلك الادعاءات والخرافات لم تسلم منها حضارة عريقة أو موروثات أثرية هامة على وجه الكوكب، سواء آثار مصر القديمة أو سومر وبابل فى العراق القديم، أو حضارتا الأزتيك والإنكا فى المكسيك وپيرو، أو حتى تماثيل جزيرة الفصح نفسها.
المستفز حقا أن هؤلاء القوم الهرائيون - لو سمحتم لى باستخدام هذا الوصف - يجدون من يقوم بالتسويق لبضاعتهم الفاسدة، من قنوات وصناع أفلام وثائقية وبرامج بودكاست وناشرين للكتب، لدرجة أن قناة تاريخية دولية - اعتذر عن ذمر اسمها-تخصص وقتا من برنامجها الأسبوعى للبرامج التى تروج لتلك الخرافات.
يمكننى أن اتفهم توظيف بعض صناع أدب ودراما الخيال العلمى والفانتازيا للشطح الخيالى وافتراضات ارتباط الحضارات القديمة بكائنات أو قوى خارقة، على غرار بعض أعمال سلاسل مارڤل ودى سى كوميكس مثلا.. لكن صناع تلك السلاسل لم يحاولوا أن يقنعوا المتلقى بأنهم يقررون حقائق علمية، بل هم صرحاء فى رسالتهم: نحن نقدم خيال لأجل المتعة فقط.
وحتى من تناولوا آثار الحضارات القديمة فى عصور ما قبل فك رموزها، مثل الكُتاب العرب والمسلمين كالمقريزى فى كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" - مثلا - وذكروا قصصا عن ارتباطها بأناس مثل قوم عاد أو العماليق أو الجن أو حضارات ما قبل طوفان نوح عليه السلام، لم يتحدثوا بلهجة تقريرية حاسمة، بل كانوا أمناء فى تنبيههم القارئ أن كل ما دونوا هو روايات وقصص متوارثة بين الأجيال.
فالمنطق العلمى، إذن يقول إن علينا التعامل مع تلك القصص على هذا الأساس، خاصة أن لدينا الآن علما محترما هو علم المصريات، له ضوابطه ومناهجه وعلماءه الموقرون، وأن نقرأ تلك الكتابات فى سياق عصرها وظروف تدوينها، لا أن نلقى جانبا ما لدينا من علم حديث منضبط وأن نتشبث بروايات أكد ناقلوها أنفسهم عدم تأكدهم من صحتها.
ربما يسأل البعض: وبم تفسر الإعجاز فى بناء الهرم الأكبر؟ أو تمكن المصريون القدماء من قطع أحجار بعض التماثيل ومعادن بعض التوابيت والحلى بدقة وسلاسة تعجز عنها بعض وسائلنا الحديثة؟ أو تشابه بعض آثار مصر القديمة وحضارة المكسيك؟ أو دقة الحسابات الفلكية المصرية والعراقية القديمة؟ إلخ...
أجيب ببساطة: ولماذا علينا أن نمتلك الإجابات الحاسمة لكل تلك الأسئلة فى آن واحد؟ لماذا لا نتقبل حقيقة أن بعض الأسئلة قد تبقى زمنا بلا إجابات نهائية؟ وأن البحث العلمى يبدأ من حيث تُطرَح الأسئلة؟ وأن بعض الغوامض التاريخية هى التى تعطى البحث التاريخى متعته؟ ما مغزى "البحث العلمى" إذن إن لم نتصالح مع جهلنا كثيرا من الأمور؟
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم..