بيشوى رمزى

الشراكة "الباردة"

الأربعاء، 24 سبتمبر 2025 09:46 ص


تبدو الاعترافات المتواترة، بالدولة الفلسطينية، من قبل قوى غربية، بمثابة خطوة هامة وحاسمة، وانتصارا مفصليا للقضية، في مواجهة محاولات التقويض، التي يخوضها الاحتلال منذ بدء العدوان على قطاع غزة، عبر انتهاكات متواترة، تجسدت في قصف المدنيين وتجويعهم، ودعوات مشبوهة، وعلى رأسها التهجير والفصل الجغرافي، وغيرها، وهو ما يمثل انقلابا مهما، على العديد من المسارات، أولها على الانحياز التاريخي للدولة العبرية، تحت ذرائع مختلفة، بينما يعتمد في مسار ثان على الخروج على القيادة الأمريكية التقليدية، عبر خطوات أحادية متزامنة من جانب قوى مؤثرة، سواء في نطاقها الإقليمي أو الدولي، على غرار فرنسا وبريطانيا، وكندا، ومن قبلهما إسبانيا وآيرلندا، وغيرهم، في حين أنها تمثل نقطة انطلاق جديدة، نحو إعادة استكشاف الذات في إطار القدرة على التأثير، فيما يتعلق بالقضايا الدولية ذات الزخم.


ولعل الموقف الغربي من فلسطين، ودولتها، يمثل فصلا مهما في التحولات الدولية، حيث تقدم الدول المعترفة حديثا بالدولة المنشودة نفسها باعتبارها قادرة على المشاركة في صناعة القرار الدولي، خاصة وأن بعضها (فرنسا وبريطانيا) كانت تشكل يوما ما أقطابا دولية مهيمنة، في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وتحديدا إبان الحقبة الاستعمارية، وهو ما ساهم بصورة أو بأخرى، في خلق حالة يمكننا تسميتها بـ"الانتفاضة" على الذات، من خلال استعادة دورها وتأثيرها في النظام الدولي، خاصة وأن المنافسة باتت تعددية، في وجود قوى أخرى على غرار روسيا والصين، بالإضافة إلى وجود مساحة لزيادة عدد المتنافسين الدوليين، على الساحة الدولية، خاصة مع التراجع الأمريكي الملموس من جانب، والتفتت الذي يلاحق المعسكر الغربي برمته من جانب آخر.


ولكن يثور التساؤل حول طبيعة المنافسة الدولية في اللحظة الراهنة، وما إذا كانت تتجه نحو الصراع بين القوى المتنافسة، أم أن ثمة اتجاها آخر يمكن من خلاله إدارة المرحلة الدولية المقبلة، خاصة وأنها ستكون متعددة الجبهات، تدور بين ما هو تقليدي، على غرار العلاقة بين الولايات المتحدة وكلا من روسيا والصين، من جانب، وأوروبا الغربية وموسكو من جانب آخر، ناهيك عن المنافسة البينية، وإن كانت غير ظاهرة بين روسيا والصين، باعتبارهما قوى مؤثرة، تسعيان نحو الحديث باسم النصف المكلوم من العالم، جراء انتهازية دول العالم الأول، بالإضافة إلى منافسة مستجدة، بين الغرب (أوروبا وكندا) والولايات المتحدة، في إطار الخروج التدريجي للأولى من العباءة الأمريكية.


الواقع أن الوضع الراهن يبقى حساسا للغاية، فإما أن تخرج الأمور عن السيطرة، فيصبح العالم أمام مواجهة شرسة، تأكل الأخضر واليابس، سواء عبر سياسات اقتصادية، تقوم على تجويع الآخر، وهو النهج الذي باتت تتبناه واشنطن مؤخرا، عبر سياسات التعريفات الجمركية، أو من خلال مواجهات عسكرية مباشرة قد تعيد العالم إلى حقبة الحروب العالمية، على غرار النهج الذي تتبناه إسرائيل مؤخرا في منطقة الشرق الأوسط، وإما تتحول حالة المواجهة إلى قدر من الاحتواء، عبر التوجه نحو بناء شراكات، تقوم على المصالح المشتركة، وضمان أكبر قدر من الاستقرار، في ظل تحديات تبدو صعبة للغاية، لا تفرق في واقع الأمر بين دول العالم الأول أو الثالث.


النموذج الأخير، رغم أنه ضبابي نوعا ما، على خلفية محدودية تطبيقه، يبقى حاضرا في مشاهد عدة، أبرزها العلاقة بين روسيا والصين، والتي يضعها بعض الخبراء في خانة "التحالفات"، بينما يتجاهلون البعد التنافسي، بين قوتين صاعدتين، بل ويغفلون، ربما عمدا، عن طبيعة العلاقات الدولية، التي تقوم أساسا على النفوذ والاستحواذ والمصالح، وهو جعلها ذات طبيعة صراعية، حتى بالتمعن في علاقة الحلفاء، في ضوء رغبة كل طرف في تحقيق أكبر قدر من المصالح على حساب الآخر.


والشراكات نفسها قابلة للتنوع، بحسب طبيعة العلاقة بين أطرافها، وحدود المنافسة، فالحالة الروسية الصينية، على سبيل المثال، تحمل قدرا من الدفء، على الأٌقل مرحليا، في ضوء تقارب الأهداف، في إطار المواجهة مع الولايات المتحدة، وهو الأمر القابل للتغيير في ضوء تغير المعطيات الدولية، بينما يمكن أن تكون هناك حالات أخرى من الشراكة الأكثر برودا، في ظل حدة المنافسة، وهو ما يمكن أن نلمسه في علاقات أوروبا الغربية مع روسيا، حال التخلي عن النزعة العدائية المباشرة، وسياسة العقوبات التي يتبناها الغرب تجاه خصومه، والتي تعد أحد أهم العلامات المميزة لحقبة الهيمنة الأحادية الدولية، التي سادت العالم خلال أكثر من ثلاثة عقود مضت.


نماذج التحول نحو الشراكة، كآلية للخروج من الصراع المباشر، ليست جديدة على الساحة الدولية، خاصة في السنوات الأخيرة، حيث كانت مصر فاعلا رئيسيا فيها، وهو ما بدا في شراكات محدودة النطاق في الشرق الأوسط، في نطاق ثلاثي، مع كلا من الأردن والعراق، لتفتح الباب أمام حزمة من المصالحات بين القوى الإقليمية، ربما لم تلغي الطبيعة التنافسية في الكثير من الحالات، ولكنها ساهمت في التخفيف من حدتها، مما أضفى قدرا من الاستقرار الإقليمي، وساهم إلى حد كبير في توحيد المواقف تجاه قضايا بعينها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهو ما بدا في الإجماع الإقليمي، الذي توصل إليه جميع أطراف المعادلة الإقليمية حول رفض التهجير والالتزام بالشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، والتي أسفرت في نهاية المطاف إلى صمود جمعي في مواجهة دعوات الاحتلال المشبوهة، وقناعة دولية عارمة بنزاهة الموقف الذي تتبناه القوى الداعمة لحق الفلسطينيين في بناء دولتهم، لتصبح سلسلة الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية أحد أبرز نتائجها.


الشراكة الباردة، يمكن أن يكون صيغة بديلة للصراع الذي يعد السمة الرئيسية لمراحل الانتقال في النظام الدولي، على غرار الحروب العالمية التي فصلت بين الحقبة الاستعمارية من جانب، والثنائية القطبية، من جانب آخر، أو الحرب الباردة، التي حولت النظام الدولي نحو الهيمنة الأحادية المطلقة، ليصبح العالم بأسره تحت إدارة الولايات المتحدة، والتي ارتدت عباءة القيادة انطلاقا من المعسكر الغربي، وذلك حال توفرت الإرادة الدولية بالنأي بالعالم عن الصراعات والمواجهات المباشرة، وإدراك أن حقبة الهيمنة وما تضمنته من أدوات، على غرار العقوبات الاقتصادية، والتضييق السياسي باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، أصبح من دربا من الماضي، وبالتالي فالحاجة ملحة إلى أدوات جديدة لإدارة المرحلة الجديدة من النظام الدولي.


وهنا يمكننا القول بأن العالم أصبح بين مسارين، إما الصراع المباشر الذي قد يقوده إلى الدمار، أو الشراكة، سواء كانت باردة، لتكون بديلا للحرب، أو الدافئة، في حالة محدودية المنافسة بين أطراف العلاقة، وهو ما يمكن أن يتحقق عبر قوى فاعلة، لديها علاقات قوية مع مختلف الأطراف المتنازعة، وهو ما أبرزه الدور المصري على النطاق الإقليمي، حيث تمكنت من تدشين الشراكات، وتحقيق المصالحات، عبر قدرتها الكبيرة على الاحتفاظ بعلاقات متوازنة، مع الجميع، حتى وإن شابها التوتر في مراحل معينة، وهو ما يعكس مرونة دبلوماسية وقدرة على الاحتواء في المراحل الحساسة في تاريخ المنطقة.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب