غالبا ما ترتبط الدبلوماسية التقليدية، باللقاءات الرسمية، والبيانات، والمواقف، والاجتماعات والقمم، وغيرها من المناسبات، المرتبطة أساسا بالقضايا المثارة على الساحة الدولية، أو تعزيز مصالح البلاد على المستوى الرسمي، في إطار العلاقة بين الحكومات، إلا أن ثمة دورا آخر للدبلوماسي، يتجلى في المواقف العابرة، التي تظهر فيها ما يمكننا تسميته بـ"الفطرة" الدبلوماسية، والتي تمثل جزءً لا يتجزأ من شخصيته، وهي ما من شأنها تجاوز الجانب الرسمي، نحو أبعادا أخرى، أهمها تقديم صورة أعمق، للمؤسسة التي ينتمي إليها، لشعوب العالم، فيما يسمى بـ"الدبلوماسية الناعمة"، والتي تزايدت أهميتها في الآونة الأخيرة، عبر الحديث عن البعد التنموي، والفنون والثقافة، والرياضة، والتي تخترق حواجز الرسميات، إلى قلوب المواطنين، في الدول الأخرى، مما يخلق قدرا من الارتباط بينهم، وبين مواطني الدولة مصدر تلك الأعمال.
ولعل الحديث عن الدبلوماسية الناعمة ليس بالأمر الجديد تماما، فقد بزغت أهميتها، في منطقتنا العربية، عبر ما أسميته في مقالات سابقة بـ"معسكر التنمية"، والذي يتكون من العديد من القوى الإقليمية، وعلى رأسها مصر، التي وضعت نصب أعينها البعد التنموي كأولوية قصوى، ينطلق منها الإصلاح في الداخل، من جانب، بالإضافة إلى كونه محورا لسياستها الخارجية، من جانب آخر، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، ربما أحدثها الخطة العربية لإعادة إعمار غزة، والتي تم تمريرها في القمة العربية الطارئة المنعقدة في القاهرة في مارس الماضي، والتي جعلت من التنمية منطلقا رئيسيا لحل أكثر الأزمات الإقليمية تعقيدا، في إطار الرغبة العارمة في تثبيت أهل غزة على أراضيهم وتعزيز صمودهم في مواجهة بطش الاحتلال.
هذا التشابك بين ما هو رسمي، في إطار أزمة غزة، وما يرتبط بها من محاولة إنقاذ القضية الفلسطينية برمتها، من جانب، والدبلوماسية التنموية في إطارها الناعم، من جانب آخر، يتطلب دبلوماسيين، لديهم "الفطرة" الدبلوماسية، التي تمثل ملاذا لهم في مواجهة المواقف الطبيعية، بحيث يكونوا صورة حقيقية للرسالة التي تحملها المؤسسات، أو الدول التي يمثلونها، مما يضيف الكثير من الزخم لعملهم الرسمي، وهو ما تجلى على سبيل المثال في الموقف العابر الذي جمع الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، السفير حسام زكي، بأحد المؤثرين اليابانيين في أحد شوارع فيينا، عندما تعامل معه بعفوية، منفتحًا بلهجة مصرية صافية تحمل أصالة ودفئًا، وكأنها تجسد ميراثًا عربيًا مشتركًا، تحمل ترحيبا بشاب لا يعرفه، ينتمي إلى ثقافة أخرى، بعيدة كل البعد عن العالم العربي، قائلا له "تنور مصر"، في رسالة واضحة، خرجت بشكل عفوي، تعكس حالة الدفء والترحاب، بكل ضيوف مصر، ومن ورائها كل الدول العربية الأخرى.
المشهد بكل ما يحمله من بساطة وتلقائية، عندما يخرج من شخصية دبلوماسية، بعيدا عن المحافل الرسمية، خاصة بعد انتشاره المذهل على منصات التواصل الاجتماعي، يعطي انطباعا مهما عن الثقافة المصرية والعربية، وهو أحد أهم الأدوار المنوط بها العمل الدبلوماسي، في ظل تلقائيته، بينما يساهم بصورة كبيرة في تعزيز العلاقة ليس بين الشعوب، وإنما أيضا في إطار العلاقة بين المؤسسات الرسمية، التي يمثلها الدبلوماسي، وشعوب الدول الأخرى، حتى البعيدة عنها، وهو ما يعزز الدور الذي تقوم به تلك المؤسسات بصورة أو بأخرى، في ظل ما تساهم به من ارتباط فيما بينهم.
والواقع أن طبيعة الدبلوماسي الشخصي باتت تمثل بعدا مهما في إطار العمل في هذا المجال، فبالنظر إلى العديد من النماذج الأخرى، نجد أن ثمة حالة من النفور الدولي، جراء الطبيعة الشخصية للمسؤولين الكبار، وهو ما يبدو في المشهد الحالي الذي تمثله حكومة الاحتلال، فالتطرف الكبير لدى مسؤوليها وتصريحاتهم الشاذة، ودعواتهم الفوضوية، أثارت غضبا دوليا واسع النطاق، انطلقت من رفض شعبوي عالمي، تجلى في العديد من الاحتجاجات، ساهمت بصورة كبيرة، في الخروج بدولهم من حالة الدفاع المطلق عن مواقف إسرائيل المتطرف، بذريعة "الدفاع عن النفس"، نحو انتقادات وإدانات، تطورت بعد ذلك في العديد من الدول، إلى خطوات عملية، على غرار سلسلة الاعترافات المتواترة بدولة فلسطين، وهو ما يبدو في دول المعسكر الغربي، والمعروفة بانحيازها التاريخي للدولة العبرية.
الاختلاف بين المشاهد سالفة الذكر، يعكس العديد من المسارات التي ينبغي أن يعي بها الدبلوماسي المحترف، أهمها القدرة على تحويل المواقف العابرة إلى رسائل رمزية، من شأنها تسليط الضوء على الدور الذي تقوم به مؤسسته، بعيدا عن الرسميات والاجتماعات والقمم واللقاءات، وغيرها، بالإضافة إلى تقديم صورة حقيقية تمثل تجسيدا عمليا للخطاب الرسمي، وهو ما يبدو طريقا أنجع في الوصول إلى المتلقي إذا ما قورن بالبيانات والتصريحات الأخرى، ناهيك عن إجادته للتعامل مع المواقف التلقائية، دون تكلف أو تظاهر.
وهنا يمكننا القول بأن ما بدا في لحظته مشهدًا عابرًا، يتجاوز مجرد لقاء قصير في شوارع فيينا، يقدّم نموذجًا حيًا لـ"دبلوماسية الموقف"، تلك التي لا تبنى على الكلمات المعدة سلفا ولا على القاعات المغلقة، بل على حس الدبلوماسي المحترف، وقدرته على تحويل تفاصيل بسيطة إلى رسائل رمزية تتجاوز حدود المكان والزمان.