تعد الجبلاية، أو الجبلاية الملكية كما تعرف، أحد أقدم وأبرز المعالم داخل حديقة حيوان الجيزة، لا تقتصر أهميتها على كونها مجرد مبنى أثرى فحسب، بل هى تحفة معمارية شامخة، شاهدة على تاريخ الحديقة العريق الذى يمتد لأكثر من قرن، ومثال فريد على فن العمارة الذى ساد فى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
كما أنها كانت وما زالت موقعًا جذابًا وملهمًا لتصوير العديد من الأعمال الفنية والسينمائية والتلفزيونية المصرية الخالدة، إنها ليست مجرد بناء حجرى، بل هى جزء حى من الذاكرة المصرية الجماعية، ارتبطت بها أجيال من الزوار وخلدتها عدسات الكاميرات.
نشأة الجبلاية وتصميمها الفريد
شيدت الجبلاية فى عهد الخديوى إسماعيل عام 1879، أى قبل اثنى عشر عامًا من الافتتاح الرسمى لحديقة الحيوان للجمهور فى عام 1891، هذا التاريخ المبكر لإنشائها يدل على الأهمية التى أولاها الخديوى لهذا الصرح الذى كان جزءًا من قصر الحرملك، وهو ما كان يعرف بـ "المجموعة الملكية" داخل الحديقة.
صممت الجبلاية بأسلوب معمارى مميز يجمع بين الطراز الإسلامى الأصيل والعناصر الأوروبية الحديثة التى كانت رائجة فى تلك الفترة، مما أضفى عليها طابعًا فريدًا يمزج بين الأصالة والمعاصرة.
تعرف الجبلاية بشكل خاص بقبتها الخضراء المميزة التى تتربع على سطحها، لتكون علامة فارقة يمكن رؤيتها من مسافات بعيدة داخل الحديقة، أما من الداخل، فتتميز بمساحاتها الواسعة والأنيقة التى كانت تستخدم فى الأساس كمتحف يعرض مجموعات نادرة من الحيوانات المحنطة والطيور النادرة التى جلبت من مختلف أنحاء العالم، لتثرى المعرفة البيولوجية للزوار وتظهر مدى اهتمام العائلة المالكة بالعلوم الطبيعية والحفاظ على التنوع البيولوجى.
التفاصيل المعمارية للجبلاية تشهد على براعة التصميم ودقة التنفيذ، فالأقواس المزخرفة، والنقوش المعقدة التى تزين الجدران والأسقف، تعكس فنون الزخرفة الإسلامية، فتضفى على المكان جوًا من الهدوء والجمال، هذه العناصر مجتمعة تجعل من الجبلاية تحفة فنية تستحق التأمل، كانت ولا تزال نقطة جذب رئيسية للزوار، فهى توفر إطلالة بانورامية على أجزاء واسعة من الحديقة، بما فى ذلك البرك المائية والمساحات الخضراء الشاسعة، مما يجعلها مكانًا مثاليًا للاسترخاء والتأمل والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة التى تحتضنها الحديقة.
الجبلاية على مر السنين
على مدار تاريخها الطويل، قامت الجبلاية بأدوار متعددة لم تقتصر على كونها متحفًا للحيوانات المحنطة، فقد استخدمت كمركز استقبال لكبار الزوار والشخصيات الهامة التى تزور لزيارة الحديقة، مما يؤكد على مكانتها الرفيعة كصرح معمارى يليق بالمناسبات الرسمية، كما أنها مكانًا لإقامة الفعاليات الخاصة والاحتفالات التى كانت تنظمها إدارة الحديقة، لتكون بذلك قلب الحديقة النابض الذى يجمع بين الترفيه والتعليم والثقافة، ورغم مرور السنوات وتقلبات الزمن، ما زالت الجبلاية تحتفظ بسحرها الخاص وعبق تاريخها، لتظل نقطة محورية فى زيارة أى شخص للحديقة، تجذب الكبار والصغار بجمالها وعراقتها.
ولم يقتصر دور الجبلاية على ذلك، بل امتد ليشمل كونها خلفية طبيعية وجمالية استثنائية للعديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية الخالدة فى تاريخ السينما المصرية، فبجمالها المعمارى وتصميمها الفريد، استقطبت الجبلاية ومحيطها المخرجين والفنانين لتصوير مشاهد لا تنسى، أصبحت جزءًا من الذاكرة الفنية للمصريين والعرب.
والسينما المصرية لم يخلو مكان فى بر مصر إلا وتم التصوير فيه، وبكل تأكيد كانت جنينة الحيوانات بالمصطلح الشعبى أو " حديقة الحيوان " بالمصطلح الثقافى مكانا جيدا لأحداث كثيرة دارت داخل هذا المكان العبقرى الذى له الكثير من الذكريات عند كل المصريين.
ومن أبرز الأفلام التى صورت مشاهد فى حديقة الحيوان بالجيزة، والتى كانت الجبلاية أو محيطها كان جزءًا لا يتجزأ من هذه المشاهد التاريخية: فيلم "موعد غرام" (1956)، هذا الفيلم الرومانسى الشهير، بطولة العندليب عبد الحليم حافظ وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، الذى يتضمن إحدى اللقطات الرومانسية الخالدة التى تم تصويرها عند جبلاية القلعة (الجبلاية الملكية)، فى هذا المشهد الأيقونى، يلاحق عبد الحليم فاتن حمامة ويغنى لها أغنيته الشهيرة "كان يوم حبك أجمل صدفة"، وهى أغنية ما زالت تتردد حتى اليوم، هذا المشهد يبرز كيف كانت الجبلاية تستخدم كخلفية رومانسية وجميلة لقصص الحب فى السينما المصرية، مضيفةً عمقًا بصريًا وعاطفيًا للمشهد.
حديقة الحيوان بالجيزة فى عيون السينما المصرية: كواليس أفلام لا تُنسى
لطالما كانت حديقة الحيوان بالجيزة، بتاريخها العريق وجمالها الطبيعى، مصدر إلهام وموقع تصوير مفضل للعديد من الأفلام المصرية الخالدة، التى استغلت سحر المكان لتقديم قصص وشخصيات محفورة فى ذاكرة الجمهور.
أبرز هذه الأعمال التى وضعت الحديقة فى صميم أحداثها هو فيلم "إسماعيل ياسين فى جنينة الحيوانات" عام 1957. قدم النجم الكوميدى إسماعيل ياسين فى هذا الفيلم شخصية "عصفور"، عامل الحديقة البسيط الذى يقع فى غرام فتاة من طبقة اجتماعية مختلفة تستغله لمصالحها الخاصة. أظهر الفيلم بوضوح العديد من ملامح هذه الحديقة العريقة، مقدمًا تفاصيل غنية عن أجوائها وشخصياتها.
وفى عام 1984، اختار المخرج سمير سيف حديقة الحيوان لتكون نقطة انطلاق لأحداث فيلمه المثير "آخر الرجال المحترمين". تدور قصة الفيلم حول المدرس الصعيدى "فرجاني"، الذى يجسده الفنان الراحل نور الشريف، والذى يُكلف بالإشراف على رحلة مدرسية إلى الحديقة. تتصاعد الأحداث عندما تختفى طفلة من داخل الحديقة، ويبدأ فرجانى رحلة البحث عنها. شارك فى بطولة الفيلم أيضًا الفنانة بوسى، وأحمد راتب، وعلى الشريف، وسناء يونس، ومحمد التاجى.
ولم تكن حديقة الحيوان مجرد خلفية للأحداث، بل كانت جزءًا من النسيج الدرامى لبعض الأفلام، مثل فيلم "أفريكانو" عام 2001 للمخرج عمرو عرفه. تضمن الفيلم مشهدًا هامًا داخل الحديقة بين الفنان الراحل سامى سرحان، الذى أدى دور طبيب بيطرى بالحديقة، والفنان أحمد السقا، الذى جسد دور طبيب بيطرى طموح يعرض بحثًا على رئيسه، لكن الأخير يسخر منه ويرفض بحثه، شارك فى بطولة الفيلم أيضًا منى زكى وأحمد عيد وحسن حسنى وطلعت زين.
العديد من الأفلام الأخرى استخدمت الحديقة كخلفية لمشاهدها المتنوعة، مستغلة كل ركن فيها، من هذه الأفلام "تجيبها كده تجلها كده هى كده" عام 1982، الذى جمع مشهدًا كوميديًا بين ليلى علوى وسمير غانم داخل الحديقة، الفيلم من بطولة مديحة كامل، وفاروق الفيشاوى، والمنتصر بالله.
كما عاد المخرج سمير سيف ليصور مشهدًا لا يُنسى داخل حديقة الحيوان فى فيلمه الشهير "غريب فى بيتي"، الذى جمع مشهدًا رومانسيًا بين نور الشريف وسعاد حسنى. وفى لحظة رومانسية هادئة، يقتحم ابن سعاد حسنى فى الفيلم المشهد، قائلًا لنور الشريف "أونكل شحاته"، ليرد عليه نور الشريف بعفوية وخفة ظل "العب مع الأسد يا أشرف"، ليصبح هذا الإفيه من أشهر الإفيهات فى تاريخ السينما المصرية.
الجبلاية اليوم ومستقبلها المشرق
فى ظل التجديدات والتطويرات الشاملة التى تشهدها حديقة حيوان الجيزة حاليًا، والتى تهدف إلى إعادتها إلى سابق عهدها وتطويرها لتصبح مقصدًا سياحيًا عالميًا، من المتوقع أن تستعيد الجبلاية بريقها وتلعب دورًا جديدًا ومحوريًا يثرى تجربة الزوار، سيعمل هذا المشروع الطموح على الحفاظ على هذه التحفة المعمارية الأصيلة وترميمها وفقًا لأعلى المعايير، لتكون شاهدًا حيًا على عظمة الماضى وجزءًا لا يتجزأ من مستقبل الحديقة كمركز تعليمى وثقافى وترفيهى عالمى، قادر على استقطاب الزوار من جميع أنحاء العالم.
تظل الجبلاية، بجانب جسر إيفل والكشك اليابانى والمتحف الحيوانى ومعالم أخرى لا تقل أهمية فى الحديقة، رمزًا للتراث الغنى لحديقة حيوان الجيزة، إنها ليست مجرد مبنى، بل هى قصة تروى عبر الأجيال، تجذب الزوار من كل مكان بجمالها المعمارى الأخاذ وتاريخها العريق الذى يفوح منه عبق الزمن، وذكرياتها الفنية التى خلدتها شاشات السينما المصرية، مع مشروع التطوير الحالى ستعود هذه المواقع التاريخية لتكون مصدر إلهام جديد للأعمال الفنية فى المستقبل، وتستمر فى رسم الابتسامة على وجوه الزوار وتقديم تجربة لا تنسى.