للمعاناة وجوه كثيرة «ذلك ما ينطبق حرفيا على أهالى قطاع غزة الذين حكم عليهم بالعيش وسط الحرب والحصار ومنع وصول الإمدادات الغذائية والطبية.
حكم على أهالى غزة أيضا بمشاهدة جرحاهم وذويهم وهم يتألمون ليتجرعوا إحساس العجز وقلة الحيلة وهم على وشك التحول إلى أرقام فى سجلات الضحايا التى تدون بها مئات الأسماء بفعل المذابح الصهيونية المتكررة دون أن يملكوا انقاذا نتيجة النقص الحاد فى بنوك الدم ومواد الفحص المختبرية.
وكشف الأطباء عن مفاجئة صادمة وهى الحصول على جرعات الدم من المتبرعين دون اتباع للمعايير المعتمدة من منظمة الصحة، حيث يتم الحصول على الدم دون فحص بسبب نقص المعدات.
ويقول الأطباء، أن 65% من مواد الفحص المخبرى الأساسية أصبح رصيدها صفرا، و53% من المستهلكات والمستلزمات المخبرية رصيدها صفر، كما أن الفحوصات الأساسية المستخدمة فى أقسام الطوارئ، والعناية المركزة، وحضانات الأطفال نفدت بالكامل من مخازن المختبرات وبنوك الدم بحسب ما أكدته الدكتوره سحر غانم مدير المختبرات الطبية وبنوك الدم بغزة وأكدت عليه وزارة الصحة الفلسطينية فى بيان لها.
تحتاج بنوك الدم يوميا إلى حوالى 3000 وحدة دم لعلاج الجرحى والمصابين من الاعتداءت الصهيونية ما يدفع العديد من الأطباء إلى القبول بالأستثناءت وعدم اتباع الاشتراطات الصحية فى جرعات الدم التى يحصلون عليها من المتبرعين والمتطوعين بهدف انقاذ المصابين والجرحى.
التبرع المتتالى.. تلك الأوضاع القاسية دفعت المواطنين هم أيضا إلى التغاضى عن الاشتراطات الصحية وقاموا بالتبرع المتتالى بهدف إنقاذ ذويهم وأحبائهم ومنهم «ح. د» الذى تبرع بدمة لإنقاذ 4 حالات خلال فترات زمنية متقاربة منهم 3 من أقربائه والرابع كان أحد أصدقائه على الرغم أن الحد الفاصل بين كل تبرع وآخر لا يمكن أن يقل عن ثلاثة إلى أربعة أشهر.
ويقول « ح. د» الذى رفض ذكر اسمه: نعانى فى غزة من أوضاع مأساوية وبالغة السوء فالحصار والعدوان الإسرائيلى الذى يرفض دخول المساعدات الغذائية تسبب فى إصابة العشرات بالهزال الشديد بل وصل الأمر إلى وفاة العديدين بسبب الجوع ومع ذلك نسعى بكل ما أوتينا من قوة لإنقاذ أهلنا وأحبابنا بدمائنا حتى لو مثل ذلك خطورة ولكننا لن نتركهم يواجهون الموت دون تدخل أو محاولة لإسعافهم وإنقاذهم.
قصة أخرى تكشف عن المعاناة التى يلاقيها الأهالى فى غزة وإقبال البعض على التبرع برغم ما يعانونه من جوع وسوء تغذية ومنهم «صادق» الذى توجه إلى أحد المراكز الطبية للتبرع بالدم استجابة منه للنداءت العديدة التى يرسلها العاملون بالمنظومة الطبية وبعض المتطوعين عبر مكبرات الصوت التى تجوب الأحياء وتهرول فى الطرقات بحثا عن متبرعين بالدم لإنقاذ المصابين.
ويقول «صادق»: خلال تواجدى فى خيمتى بمركز الإيواء الخاص بالنازحين سمعت النداءت المتكررة والملحة والتى تصرخ عبر مكبرات الصوت تحث المواطنين على التبرع بالدم لإنقاذ الضحايا الذين يتزايدون ساعة تلو الأخرى بسبب الجرائم والمذابح الصهيوينة فتوجهت إلى أحد المراكز الطبية للتبرع بالدم محاولا التغلب على الإرهاق والهزال نتيجة الجوع الذى ترك آثاره على جسدى من وهن وضعف شديد بهدف التبرع بالدم وما إن وصلت حتى ألقيت جسدى على أقرب مقعد وجاءت إلى إحدى العاملات تسأل عن حاجتى فأخبرتها عن رغبتى فى التبرع بالدم.
ترددت فى سحب العينة نظرا للضعف الذى أبدو عليه ثم استجابت بعد إلحاح منى وتزايد أعداد المصابين الذين يتوافدون بشكل متتال على المركز لتلقى العلاج.
الأطباء ضمن المخالفين.. لم يكن المواطنون فى غزة هم أصحاب المبادرة فقط فى التوجه إلى بنوك الدم للتبرع برغم ما يعانونه من ضعف ووهن بأجسادهم بل كان هناك العديد من الأطباء يحاولون بكل الطرق إنقاذ الوافدين على المركز الطبى من الجرحى.
من هؤلاء «الطبيب صهيب»، الذى انتشرت قصته على نحو واسع بين العاملين فى الدائرة الطبية وحاز شهرة واسعة ليس لمهارته وتفانيه فى العمل فقط بل بسبب محاولته المستميتة، فى إنقاذ أحد المصابين وتعريض حياته للخطر من خلال تبرعه بالدم لأحد المصابين وكان يحتاج إلى نقل دم بصوره عاجلة، وعلى الرغم من الضعف والهزال الشديد سارع للمخاطرة بحياته والتبرع بالدم بسبب العجز الكبير فى رصيد بنك الدم بالمستشفى الذى يعمل به.
وقال صهيب: «كان هناك تردد من إحدى العاملين بالوحدة الطبية بسبب حالة الضعف التى أبدو عليها ولكنها بدأت فى سحب الدم بدون أى فحوص، وبعد دقائق قليلة بدأ الدوار والإرهاق وتصبب العرق مع شعور بالغثيان والدوخة، وهى الأعراض التى أعقبت التبرع بالدم بدون تغذية.
ويقول الطبيب: لم يكن بوسعى سوى المخاطرة وسحب عينات دم من جسدى الواهن نتيجة الجوع رغم أن ذلك مخالفا للبروتوكول الخاص بمنظمة الصحة العالمية ولكن لا يمكن أن نترك أهلنا للموت دون تدخل.
«عزام فايق» كان قبل عامين فقط شاب رياضى يتمتع بجسد قوى ونشاط بسبب حرصه على ممارسة الرياضة وخاصة الألعاب القتالية والجرى لمسافات طويلة قبل أن يتوقف تماما عن ممارسة تلك الأنشطة نتيجة الحرب وتهدم منزله والنزوح بجانب الجوع الشديد نتيجة الحصار المفروض من العدو الصهيونى.
ورغم ما أصاب جسد «عزام» من ضعف وهزال، فإن ذلك لم يمنعه عن ممارسه عادته القديمة وهى حرصه على التبرع بالدم من آن لآخر وخلال هذه الفترة يحرص «عزام على التبرع» أكثر من مرة بشكل متقارب برغم شعور الإعياء الذى يصاحبه عقب كل مرة من التبرع بالدم.
ويقول «عزام»: حضرت إلى المركز وكانت مظاهر الإعياء واضحة فى الإرهاق والضعف والجوع الشديد ورغم ذلك تبرعت بوحدة دم كاملة بدون أى فحوصات بهدف مساعدة إخوانا على الشفاء.
وتابع عزام: كلنا نعانى ونعيش ظروفا صعبة من مذابح يومية وقتل عشوائى وتجويع وحصار فضلا عن العيش فى بيئة غير صالحة من مياه ملوثة وقمامة منتشرة بكل مكان حتى بنوك الدم تعانى من عجز شديد ولا نستطيع علاج أحبائنا من المصابين والجرحى.
معاناة أصحاب الأمراض المزمنة.. وجه آخر، من الأزمة يكشف عنها أصحاب الأمراض المزمنة الذين يحتاجون إلى نقل الدم بشكل دورى فإذا كان الأصحاء يعانون من الضعف الشديد والهزال نتيجة حرب التجويع، فلنا أن نتساءل عن حال أصحاب الأمراض المزمنة فى ظل النقص والعجز الشديد فى أرصدة بنوك الدم ومنهم مرضى «الثلاسيميا»، ويقصد به مجموعة من الاضطرابات الوراثية فى الدم تؤثر على قدرة الجسم على إنتاج الهيموجلوبين، وهو البروتين الضرورى لحمل الأكسجين فى خلايا الدم الحمراء، ما يؤدى إلى الإصابة بفقر الدم وفى بعض الحالات يكون الأمر مستدعيا التدخل لزراعة النخاع.
إحدى الأمهات قالت لـ«اليوم السابع» إن ابنتها الصغرى 9 سنوات تعانى من مرض الثلاسيميا وتعتمد فى علاجها على نقل الدم بشكل أساسى حيث تحتاج إلى نقل دم كل 23 يوما لكى تتمكن من الحركة بشكل طبيعى مثل أقرانها ولكن هذه الفترة نعانى بشدة من الحصول على الدم بسبب عدم توافره ما تسبب فى تدهور حالتها الصحية وعدم القدرة على الحركة والشعور بالتعب والإرهاق عند بذل أى مجهود كاشفة أنها فى أحيان كثيرة تضطر إلى التبرع لابنتها بالدم على الرغم من حالتها الصحية غير المستقرة نتيجة الجوع مؤكدة أنها منذ أكثر من شهر كامل لم يتوافر فى منزلها أى طعام.
مرضى الكلى.. معاناة شديدة يعيشها مرضى الكلى بسبب العجز فى بنوك الدم وعدم قدرتهم على إجراء عمليات الغسيل الكلوى بشكل منتظم.
فادى الزعراوى 36 عاما قال إنه مريض كلى منذ الصغر ويحتاج إلى إجراء غسيل كلوى بشكل مستمر ولكن يعانى منذ الحرب على غزة من عدم متابعة علاجه بسبب نقص الإمكانات الطبية وتدمير العديد من مراكز الغسيل الكلوى فضلا عن العجز الشديد فى بنوك موضحا إنه يعتمد على أقربائه فى توفير الدم والذين لا يقلون معاناة عنه لعدم لياقتهم بالشكل للتبرع بالدم نظرا لمعانتهم من سوء التغذية ويتم سحب الدماء بدون فحص لحالتهم الصحية نظرا للأوضاع الأستثانئية التى نعيشها.
مرضى الهيموفيليا.. لا تختلف معاناة مرضى الهيموفيليا عن أقرانهم من أصحاب الأمراض المزمنة ولكن قد تكون المعاناة هنا أكثر وضوحا لاعتماد مرضى الهيموفيليا بشكل كامل على الدم ومشتقاته من الصفائح والبلازما فى العلاج وقد تصل مضاعفاته إلى الوفاة فى حال عجز المريض عن الحصول على جرعات الدم المناسبة.
ويعرف مرض الهيموفليا بأنه «اضطراب نزيف وراثى يؤدى إلى عدم تجلط الدم بالشكل الصحيح، ما يمكن أن يسبب نزيفا تلقائيّا، خاصة بعد الإصابات أو الجراحة، ومن أبرز أعراضه، نزيف فى المفاصل، وهذا يمكن أن يسبب تورما وألما أو ضيقا فى المفاصل، وغالبا ما يصيب الركبتين والمرفقين والكاحلين، بالإضافة لنزيف فى الجلد أو العضلات والأنسجة، ونزيف الفم واللثة.
وبحسب بيان صادر عن وزارة الصحة الفلسطينية فى غزة بتاريخ 17 أبريل الماضى، فأن الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة ضاعفت من معاناة مرضى الهيموفيليا، موضحة أن180 مريضا بالهيموفيليا يعيشون فى غزة من أصل 550 مريضا فى فلسطين، ويعانون من نقص حاد فى الأدوية الأساسية.
مخالفة برعاية طبية.. من جانبها، قالت سحر غانم مدير المختبرات الطبية وبنوك الدم بغزة فى تصريحات صحفية لها: «إن الحاجة الماسة والكبيرة للتبرع بالدم تجبرهم على سحب الدم من المتبرعين حتى لو لم تنطبق عليهم المعايير اللازمة لشروط التبرع بالدم، لافتة إلى أن المتبرعين مصابون فى الغالب بفقر الدم، وهذا ممنوع وفقا للمعايير العالمية.
وتضيف سحر: نعانى بشدة على مختلف الأصعدة بسبب طول أمد الحرب فهناك مجاعة تفتك بالأهالى وحصار يمنع وصول الإمدادات الغذائية والطبية وانعكست تلك الأوضاع على بنوك الدم فهناك شبه عزوف إجبارى من المواطنين عن التبرع بسبب الضعف الشديد والإنهاك الجسدى نتيجة الجوع وتفاقم الأزمة فى ظل تصاعد أعداد الجرحى والمصابين.
وتستطرد سحر: «كل يوم تستمر فيه الحرب يسقط مزيد من الجرحى، غالبهم يصلون إلى المستشفيات وشرايينهم مقطوعة وفقدوا كمية كبيرة من الدم، بالتزامن مع وجود عجز كبير فى أرصدة بنوك الدم.
وأضافت مديرة دائرة المختبرات وبنوك الدم بوزارة الصحة بغزة: «أطلقنا العديد من الحملات المحلية بهدف إيجاد متبرعين بالدم ولكننا نجد استجابة بصعوبة شديدة وفى الغالب لا يتعدون أصابع اليد الواحدة وهو أمر نتفهمه بسبب سياسة التجويع المفروض على شعبنا فى غزة مؤكدة أنهم يواجهون نقصا فى أرصدة بنوك الدم فى كل المستشفيات بقطاع غزة، بسبب الطلب المتزايد نتيجة الأعداد الكبيرة من الجرحى والمصابين والمحتاجين لنقل الدم بشكل منتظم».
بدورها، قالت مدير وحدة المختبرات وبنوك الدم فى وزارة الصحة الفسطينية د. صوفيا زعرب، أن الاحتلال تعمد تدمير المنظومة الصحية بالكامل خلال الحرب التى يشنها الاحتلال على قطاع غزة.
وأوضحت صوفيا فى تصريحات لها: «إن الطلب على وحدات الدم فى ارتفاع يومى حاد بسبب ارتفاع أعداد المصابين والجرحى يوميا، مشيرة إلى أن القطاع يحتاج يوميا إلى ما لا يقل عن 300 وحدة دم لتلبية احتياجات المستشفيات.
وذكرت صوفيا: «المأساة لا تتوقف عند حجم الطلب، بل تتفاقم نتيجة العزوف عن التبرع بالدم، بسبب المجاعة والإنهاك العام فى صفوف الشباب، الذين كانوا يتبرعون فى السابق أربع مرات سنويا، وأصبحوا اليوم يُستنزفون بالتبرع أكثر من خمس مرات فى السنة». وتابعت «نحن أمام استنزاف بشرى كبير، ونداءاتنا اليومية على وسائل التواصل لا تكفى لسد هذا العجز فى وحدات الدم فمنذ استئناف العدوان الإسرائيلى فى 18 مارس الماضى، لم نتلق سوى 3 آلاف وحدة دم من الضفة الغربية، بينما استهلكنا فى شهر واحد أكثر من 13 ألف وحدة دم ومكوناتها، وهذا عبء يفوق قدرتنا وقدرة طواقمنا التى تعمل فى ظروف خطيرة».
وحذرت صوفيا من شح شديد فى فصائل الدم الأساسية وأضافت: نعانى ايضا من أزمة خانقة فى الأدوية والمستلزمات المخبرية، أبرزها المحاليل والمواد الخاصة بفحوصات الدم.
وذكرت صوفيا «كل ما يدخل فى عمل بنوك الدم أصبح يعانى من نقص حاد، فلا نستطيع فحص وحدات الدم كما جرت العادة فى السابق، ولا نضمن سلامتها من الفيروسات بسبب شح مواد الفحص».
وأكدت صوفيا أن أكثر من 50% من أجهزة المختبرات تم تدميرها، إما بفعل القصف المباشر أو نتيجة الإخلاء القسرى للمستشفيات.
وفى بيان لها حذّرت وزارة الصحة الفلسطينية فى غزة من تدهور خطير يهدد خدمات المختبرات وبنوك الدم فى القطاع، بفعل استمرار العدوان والحصار الإسرائيلى، مؤكدة أن حياة آلاف المرضى والجرحى أصبحت على المحك.
وقالت الوزارة: «إن خدمات نقل وحدات الدم ومكوناته مهددة بالتوقف الكامل نتيجة نفاد المستلزمات الأساسية لسحب ونقل الدم، ما يعرّض المصابين فى المستشفيات لخطر الموت المباشر.
وأوضحت الوزارة أن 65% من مواد الفحص المخبرى الأساسية رصيدها صفر، الأمر الذى يعطّل قدرة الطواقم الطبية على إجراء التشخيصات والمتابعات الطبية، فيما وصل العجز فى المستهلكات والمستلزمات المخبرية إلى 53%، ما أدى إلى توقف معظم الخدمات المخبرية فى المستشفيات.
وأضافت الوزارة أن الفحوصات الأساسية المستخدمة فى أقسام الطوارئ والعناية المركزة وحضانات الأطفال نفدت بالكامل، بينما فحوصات وتشخيص الأمراض المعدية غير متوفرة منذ بداية الحرب، ما يهدد بتفشى الأوبئة وصعوبة احتوائها داخل المستشفيات والمراكز الصحية.
وأوضحت الوزارة: أن ما يتم توفيره حاليا من وحدات الدم لا يلبّى الحد الأدنى من الاحتياجات الشهرية.
وشدّدت على أن دعوات التبرع المجتمعية لم تعد كافية لتغطية العجز، بسبب تدهور الأوضاع الصحية العامة، وتفاقم حالات سوء التغذية وفقر الدم لدى السكان، مطالبة بضرورة تعزيز أرصدة بنوك الدم لتمكين التدخلات الطارئة للجرحى والمنقذة للحياة.
من جانبها، أكدت منظمة «أطباء بلا حدود»: أن الجوع والحصار ونقص المواد الغذائية دفع أهالى غزة إلى العزوف عن التبرع بالدم، ما دفع الأطباء إلى التبرع ذلك من أجل إنقاذ مرضاهم، وأن العاملين الصحيين فعلوا ذلك وهم على رأس عملهم وواجهوا تحديات كبيرة أثناء ممارسة عملهم، ورغم ذلك واصلوا تقديم خدماتهم الطبية لجرحى الحرب.

ملف خاص