في سجل الأمم، هناك مؤسسات لا يطويها الزمن، لأنها ترتبط بوجود الدولة ذاتها، وتتشابك أدوارها مع بقاء العدل واستمرار السيادة. ومن بين تلك المؤسسات العريقة تبرز هيئة قضايا الدولة، التي تحتفي هذا العام بمرور مائة وخمسين عامًا على إنشائها؛ مناسبة ليست عابرة في تاريخ مصر، بل محطة فارقة تكشف عن مسيرة طويلة من الوفاء للقانون، والذود عن المال العام، وصون الكيان الوطني.
لقد شرُفت مؤخرًا بلقاء المستشار الدكتور حسين مدكور، رئيس هيئة قضايا الدولة، الذي أهداني كتابًا نفيسًا أعدّه خصيصًا توطئةً للاحتفالية الكبرى بهذه المناسبة التاريخية. وفي ثنايا صفحاته، تتجلى صورة حيّة لمؤسسة وُلدت عام ١٨٧٦، لتكون ضمير الدولة القانوني وحارس سيادتها، وليمتد حضورها عبر قرن ونصف شاهدًا على تحولات مصر السياسية والدستورية والاقتصادية.
وإذا كان التاريخ يمنح الهيئة مكانتها، فإن حاضرها يرسّخ جدارتها عبر إنجازات نوعية تعكس روح الجمهورية الجديدة. فقد خطت الهيئة خطوات راسخة في مجال تمكين المرأة، إذ لم يكن انخراطها أمرًا عابرًا، بل تحول إلى انتصار مؤسسي بإنشاء أمانة مستقلة لشؤونها، في انسجام مع الانتصار التاريخي الذي حققه الرئيس عبد الفتاح السيسي للمرأة المصرية، بفتح أبواب كافة الهيئات القضائية أمامها، بما في ذلك مجلس الدولة والنيابة العامة. وهكذا غدت المرأة القاضية في هيئة قضايا الدولة رمزًا للريادة، ودليلًا على أن العدالة لا تكتمل إلا حين تتسع للجميع.
وعلى الساحة الدولية، وقفت الهيئة حصنًا منيعًا أمام القضايا الشائكة في ميدان المنازعات الخارجية، حيث تصدت لنزاعات الاستثمار والتحكيم الدولي، واستعادت أموال الدولة التي كادت تضيع وسط دهاليز الخصومات المعقدة. لقد أثبتت في هذه المواجهات أن مصر لا تؤخذ على حين غرّة، وأن سلاح القانون قادر على حماية السيادة ورد الحقوق، لتسطر الهيئة ملحمة قانونية تُدرّس للأجيال القادمة.
وفي موازاة ذلك، أدركت الهيئة أن حماية الحق لا تنفصل عن مواكبة العصر، فانطلقت نحو الرقمنة والتحول التكنولوجي، لتتحرر من أسر الأرشيف الورقي، وتؤسس لمنظومة متكاملة من الأرشفة الإلكترونية وإدارة القضايا بالوسائل الرقمية. إنها ثورة هادئة أعادت صياغة علاقة المواطن بالدولة، وعززت سرعة الفصل في القضايا، ورفعت من كفاءة الأداء، لتضع العدالة في قلب التحول الرقمي الذي تعيشه مصر.
“أعطني قضاءً أعطك دولة”… هكذا عبّر الحكماء عن جوهر بقاء الأمم. وإن هيئة قضايا الدولة على مدار قرن ونصف من الزمان جسّدت هذه الحقيقة بامتياز، فكانت الدرع الواقي للوطن، والسيف البتّار في ساحات القضاء، واللسان الناطق باسم الدولة في الداخل والخارج. إنها ليست مجرد هيئة قضائية، بل ذاكرة وطنية وذراع قانونية للدولة المصرية، ستبقى ما بقيت مصر، شاهدًا على أن الحق لا يُهزم، وأن العدل لا يشيخ، وأن سيادة القانون هي سرّ خلود الأمم.