تلقّت إسرائيل صفعة قاسية فى حىِّ الزيتون؛ فرَدَّت باستعراضٍ دموىٍّ ليس غريبًا عليها فى حىِّ الرمال. قصفت بنايةً سكنية لتُودى بحياة العشرات، بمن فيهم النساء والأطفال، مُلمِّحةً إلى استهداف قيادة حماسية مُهمّة، قبل أن يتطوَّع الإعلامُ العِبرىُّ بالإشارة صراحةً إلى المُلثَّم «أبو عبيدة»، المُتحدّث باسم كتائب القسَّام.
لا دليلَ حتى الآن على الإيقاع بالصيد الثمين، والحركةُ من جانبها صمَتَت تمامًا، دون إعلانٍ عن مقتله أو نجاته. وبدلاً من الاشتباك مع الحدث المُستَجَدّ، أذاعت مقطعًا مُصوَّرًا لعددٍ من قادتها الراحلين، يتضمَّن أوَّل اعتراف علنىٍّ بمقتل محمد السنوار، بعدما أكّدته سلطات الاحتلال فى مايو الماضى.
كثيرًا ما أعلن الصهاينةُ عن اغتيال قياداتٍ؛ ثمَّ أثبتت الوقائعُ عكسَ ذلك، وكثيرًا ما نَفَى الحماسيِّون عملياتٍ شبيهةً وتأكَّدت لاحقًا.
وفى حال المُلثَّم؛ فإنَّ شخصيَّته غير معروفة للعدوِّ على وجه التحديد، ويُخمِّن فى أسماء عِدّة، لعلَّ أرجحها لديه حذيفة الكحلوت، وإذا كانت مُتعثّرةً بعد كلِّ تلك الشهور فى مُطابقة الصوت بالصورة والهُويّة، فقد لا يكون منطقيًّا الجَزم بأنها أصابت مَنْ لا تعرفه من الأساس. هكذا يرى البعض، وربما يكون تخمينها سليمًا والاصطيادُ دقيقًا، فكلُّ الاحتمالات واردةٌ دومًا.
ومع سابق الملاحظات؛ فغالب الظنِّ أن إعلان الاحتلال سيكون دقيقًا، والحركة ستستغرق أسابيع أو شهورًا قبل التوصُّل للحقيقة، أو اتّخاذ قرار بالإفراج عنها.
وبعيدًا من الاعتراف أو الإنكار، وما إذا كان المُلثَّم شخصًا أم عِدَّة أشخاص، وفى غزّة أصلاً أمْ يُقيم خارجها؛ فالأهمّ هُنا أثرُ العملية وارتداداتها على الطرفين. خاصّةً أنَّ الشخص المُشار إليه ليس ذا قيمة عسكرية وميدانية عالية، وفى الغالب لا يتجاوز دوره قراءة البيانات المُعَدّة له سلفًا من آخرين.
ورغم هيئته العسكرية ورمزيَّته الحركية؛ فلا يعدو أن يكون أداةً فى أدنى سُلَّم التنظيم، وأقرب إلى الصحفيين وفرق الإعلام والعلاقات العامة؛ وإنْ بصيغة نظاميّة وارتباطٍ مُباشر بالهياكل والأجنحة النشطة على الأرض من كتائب المُقاتلين.
يعرفُ جنرالات الاحتلال أنَّ «أبو عبيدة» محدود القيمة ميدانيًّا، ومن نوعية الخسائر غير الضارّة ماديًّا، والتى يسهُل تعويضها على وجه الاستعجال، ودون أعباء أو ضغطٍ على الموارد البشرية.
والعملية لا تتجاوز نطاقَ التغطية على كمين الجُمعة، والبحث عن الصورة لأغراض دعائيّة داخليّة، وطمعًا فى خلخلة صفوف الفصائل وترقية منسوب التوجُّس لدى مجموعاتها المُقاتلة، انطلاقًا من أنَّ الوصول إلى رجال الظلِّ يُعبِّر عن فاعليّة استخبارية ومعلوماتية عالية، وقد يُؤشِّر على اختراقاتٍ عميقة.
فضلاً عمّا وراء ذلك من قَطع حلقة الاتّصال العاطفى مع الجمهور فى القطاع وخارجه، والتعريض بخطابات المقاومة الصاخبة إزاء خطَّة احتلال غزّة، من جهة إسكات صوتِها الساخن، بما ينطوى عليه من إيحاءٍ بالهشاشة والانكشاف.
لعنة البحث عن الصورة تقود نتنياهو منذ اثنين وعشرين شهرًا، كما قادت السنوار فى الطوفان سابقًا. وتلك الفكرة الاستعراضية بطَبعها تُغرِقُ فى الشكل دون المضمون، وتكتفى عن الاستجابة العاقلة للسياقات والأحداث، باستحلاب طاقة الرمز والعاطفة إلى آخرها، من دون انشغال بالتداعيات الثقيلة وقتها وفى المستقبل، أو اشتغال على سدِّ الشقوق والفجوات فى السردية والأداء.
ولأنها سهلة وزهيدة التكلفة؛ فالإيغال فيها يبدو أهون وأقلّ فى أعبائه من أخذ الأمور بحقِّها، أو التصدِّى للحوادث كما تقتضى الظروف، وبما يتوجّبه ذلك من التبديل الواعى بين الإقدام والإحجام.
كانت هجمة الغلاف رقصّةً انتحارية كاملة، تُشبه افتتان مُراهق بأن يلتقط «صورة سيلفى» على حرفٍ من بركان ثائر، ولا غضاضة فى أنْ يسقُط بعدها أو تتفجَّر الحمَم فى وجهه بعدما يُوَقّع بالحضور مُباشرة.
ومن يومها يمتلئُ الألبوم باللقطات، وتنزفُ غزّة دمها وآمالها وهامشها الضئيل من الحياة. ولم تكُن عملية الإغارة الليلية بين حَيَّى الزيتون والصبرة مُؤخّرًا إلَّا استعراضًا شَبيهًا، يَستَوفِى غايتَه الكاملة برسالة المُلثَّم، ثم تقارير القنوات المُفرطة فى شعبويَّتها ومصالح مُموّليها الرديئة، ولا اعتبار لِمَا سيتأتَّى عن ذلك من رُدود فعلٍ عنيفة، أو تسريعٍ لخُطَط الاجتياح والهيمنة العسكرية الكاملة، ولا لِمَا يُوفّره من ذرائع يتسانَد إليها نتنياهو، وتُعزِّز أجندته داخل الائتلاف الحاكم، وعلى الرغم من كلِّ الاعتراضات المُتردِّدة فى الشارع وبين الطبقة السياسية.
كان أبو عبيدة طوالَ حضوره على مسرح الأحداث شخصًا افتراضيًّا، وصورةً كاريكاتوريّةً تُقدِّمُ مُعادِلاً مُضلِّلاً عن الواقع المأساوىِّ المحيط به. خطابُ النصر والبأس المَوشوم على شَفتَيه ولسانه لم يَكُن يُعبِّر عن حال القطاع، ولا قوَّة الحركة المُتداعية، وكان يصرفُ الأنظارَ عن المَظلَمة سارقًا بعض الضوء من المنكوبين والجوعى.
والإجهاز عليه صورةٌ أيضًا؛ يُغطِّى بها نتنياهو ما يُلاحقه من عار الإخفاق ومُطاردة المجهول والمستحيل، فكأنَّ الأزمة اختُزِلَت من دون اتّفاقٍ فى ذاك الصوت المُقَنّع، تُعبِّر به حماس عن صلابةٍ مُدَّعاةٍ بلا مَقدرةٍ أو قرينة، ويُجهِزُ المُحتلُّ على آلاف الضحايا تحت ستار أنه يتعقَّبه، ويتقفّى أثرَ الحماسيِّين الخَطِرين على كيانه ووجوده.
وقد كان الرجل فى حضوره مُفيدًا للعدوِّ أكثر من الغياب؛ لكنَّ ثِقَل اللحظة اضطرَّه للخلاص منه مُؤقّتًا/ الحالة لا الشخص، تعويلاً على عائد الدعاية المُعَجَّل، وعلى أن خصومَه سيُسَرّعون استيلاد البديل، وبذات الصيغة المُغرقة فى العجز وأوهام الفاعليَّة.
يدوسُ الواقع بحذائه الثقيل على الجغرافيا والديموغرافيا، ويتناوش المختصمون فى الصور والدعاية والتخليقات المُجتَزَأة والمُحرَّفة. وَهمُ الصورة أنتج الطوفان، وحفّز حزب الله على إطلاق «حرب الإسناد والمشاغلة»؛ مُطمئِّنًا إلى قواعد الاشتباك القديمة، كما فتحَ الباب لاستدراج إيران فى سوريا، قبل أن تنتقل كرةُ النار إلى أحضانها، وينكسر الهلالُ الشيعىُّ عند خاصرته الشاميّة الهشّة.
كان الميزان مُختلًّا منذ البداية، واللعب فيه لا يزيدُه إلَّا اختلالاً، وبهذا تحوَّلت فتنةُ الصور والاستعراضات إلى أحمالٍ زائدة على كاهل المُمانَعة وأذرُعها. ولأنها تكتفى بالمعنويّات دائمًا؛ فقد دخلت سباقًا خاسرًا بالضرورة، تُزَمجِرُ وتخسر، وتصمتُ فتخسر أيضًا، وبين وقتٍ وآخر تُعوِّضُ بعض خسائرها باصطناعِ صورةٍ جديدة، تُرطِّبُ حرائق الصدور ظاهرًا؛ لكنها تستجلِبُ من ورائها خسائرَ أكبر وأفدح.
وإذا كانت غزّة سجنًا ضيِّقًا على أهله ومُقاوميه، قبل الطوفان وبعده؛ فإنَّ يد الاحتلال قد تجاوزته طوال الوقت لِمَا هو أبعد، فقتلت العارورى وفؤاد شكر وحسن نصر الله فى الضاحية، وإسماعيل هنية ونحو دزينتين من العسكريين والعلماء فى طهران، وقائمة لا يُعرَفُ مداها من الشام إلى ساحل اليمن.
وما زال نتنياهو يتحدَّث عن معركةٍ مفتوحة على سبع جبهات، فيما يستهلك الآخرون خطاب النصر وشعارات البأس والصمود، ويَعُدّون المُعادلةَ بوَضعِها القائم مثاليّةً تمامًا، أو مقبولة على الأقل؛ فلا يتوقّفون عن المغامرات الساذجة، أو يبحثون عن ثغرةٍ للنجاة، مهما بدَت ضيِّقةً أو مريرة على النفس والأدمغة الحامية.
لا معنى لحروب الصورة إلَّا إن كانت أداة بين حزمة أدوات، وجزءًا من رؤية كاملة شاملة. أمَّا أن تكون بديلاً عن الأصل المادى المُتفسِّخ، وتعويضًا بالقطعة عن مراراتٍ تتدفَّق بالجُملة؛ فهنا لا تعدو أن تكون تقنيةً احتيالية على الذات، ووسيلةً للإلهاء والتضليل، تأخُذُ ولا تُعطى، وتُعمِّق الحُفرةَ بدلاً من إقناع الواقعين فيها بحاجتهم للخروج، أو فى الحدِّ الأدنى بالتوقُّف عن مواصلة الحَفْر.
لا قيمةَ للمُلثَّم فى ذاته، ولا لأىِّ مُقاتل أو قائدٍ ميدانىٍّ من حماس وغيرها. نشأت المقاومةُ من عبء الاحتلال، وما السلاح إلَّا بديل مُؤقَّت عن السياسة ولو طال مداه.
والقاتل ينزح من خزَّانٍ بشرىٍّ لن ينضب، ولن يمَلَّ من تعويض الراحلين بمَنْ لا يقلّون عنهم إيمانًا وثباتًا على الأرض والمبدأ؛ لكنَّ العبرة بأنْ تكون التضحيات مُوجّهةً لغايات منظورة، أو معروفة فى أذهان أصحابها على الأقل.
القرابينُ التى لا تخدم الطقوسَ ولا تُحرِّك الدراما عن مَواضعِها، مُجرَّد إهدارٍ مجانىٍّ وذَبْحٍ على الأنصاب. وطالما أنَّ العدو مُتصلّب ولن يتغيَّر؛ فليتغيَّر أصحاب الحق ويُجَرّبوا طُرقًا أُخرى، ولا يُمكن الرهان على الجدية والطهرانية وإخلاص الوجه، فيما تُرفَعُ رايةُ طائفةٍ أو فصيل دون الآخرين والوطن، ويتأبّد الانقسامُ لحساباتٍ تخصُّ الأيديولوجيا والأحلاف، ولا صِلَة لها من أىِّ وجهٍ بالقضية والشاغل الوطنى.
وإذا كانت صُوَر الاستعراض والبطولات الوَهميّة مُتعدّدة، وبعضها يُستَدَلُّ به على ما يُخالف جوهرَه؛ فالأَوْلَى أن يُنظَر للنضال والجهود التحرُّرية من منظور التعدُّد أيضًا، وبيقينٍ صادق فى أنه لا يُختَزَل فى طَيفٍ أو صورة واحدة.
السياسة ليست نكوصًا على الإطلاق، وإذا كانت المُحصِّلة واحدةً مع الصهاينة فى اللين والخشونة؛ فأقلّه أن الساسة لم يتسبّبوا فى إراقة دماء الآلاف لنزوةٍ عابرة، أو مُقامرةٍ لم تُقنِع سوى شخصٍ واحد، افتتحَ المأساة ومضى، ويُجبِرُ ورثتَه من القبر على السَّير فى إثره، والاحتكام لنظرته الشمولية الضيِّقة؛ حتى بعدما تكشّف عوارُها، وفتحت على بيئته بابًا عريضًا إلى الجحيم المُطلَق.
قد لا تكون أوضاع الضفّة الغربية أفضلَ كثيرًا من غزّة، والسلطة الوطنية ليست مثاليَّةً على أيّة حال؛ لكنها ليست خائنةً أو مُفرِّطة كما سعى الحماسيِّون ورُعاتهم لتصويرها.
وليس أدلَّ على ذلك من مَوقف إسرائيل المُتطرِّف تجاه رام الله، وبما لا يقلُّ عن مَوقفِها من حماس، وصولاً إلى قرار الإدارة الأمريكية قبل أيَّامٍ بحرمان وفدِها الرئاسىِّ من تأشيرات دخول الولايات المتحدة، ليتعذَّر عليهم حضور الجمعية العامة للأُمَم المُتَّحدة، أو إعلان الدولة الفلسطينية من منصَّتها وسط الحشد والاعترافات الدولية المُتوَقَّعة.
كانت اللعبةُ بين الاحتلال والحركة محسوبةً ومُنضبطة، ولم تختلّ فى أربع حروبٍ سابقة، بعضها وُجِّهَت ضد الجهاد الإسلامى حصرًا، وامتنعت حماس عن الدخول فيها، كما لم يتعرَّض لها الصهاينة مُباشرةً.
ولا حاجة للتذكير بأنها استفادت من رعاية اليمين الحاكم فى إسرائيل، وكان يعدُّها ذُخرًا له، ويتربَّح من مواقفها الانقسامية العازلة لغزَّة عن محيطها، والساعية لاحتكار القضية بالإجمال.
والانقلاب على تلك المُساكَنَة التى عمَّرت بينهما لنحو عقدين تقريبًا؛ إنما كانت من نتاج الطوفان والانفعال به، والحاجة إلى الثأر وترميم الصورة وإعادة بناء حالة الردع.
ما يعنى أنها استجابة وقتيّة تنطلق من بواعث مُباشرة، وليست كالموقف من السلطة المُتَّهمة بالمُهادنة، وبأنها ابتلعت الإهانات، ولم ترفع سلاحًا على الغُزاة ورعاع المستوطنين.
والإفادة هنا؛ أنّ تل أبيب تخشى من رام الله بما يفوق خشيتَها من حماس؛ وليس ذلك لقوّة «عباس» ورجاله طبعًا، بل لحجّية منظمَّة التحرير ومشروعيتها، ولخوفٍ حقيقىٍّ من قيود السياسة والتزاماتها، وهو ما لا تُجدِى معه حروب الصورة؛ لأن السلطة لا يُخالجها هاجس الشرعية والتمثيل، ولا تبحث عن مكاسب معنويّة تُبدِّدُ التراكُم وتُعين العدو فى أجندته، فيما استعراضات الأخير تنقلِبُ عليه بكُلفةٍ سلبية خالصة، ليس أدلَّ عليها من الاستهجان الواسع للاستيطان وخُطَط التوسُّع وضَمّ الأراضى، دون تشغيبٍ يُهدِرُ الطاقات، أو حاجةٍ لاستباق المواقف الأخلاقية بإدانة سلوك الفصائل أوّلاً، كما يحدُث من دول الغرب تجاه غزّة.
تتفاوض إسرائيل مع حماس؛ ولو من قناةٍ غير مُباشرة، وقد فاوضتَها واشنطن نفسُها عبر باقةٍ من المبعوثين الرئاسيِّين أو المَعنيِّين بملفّ الرهائن وغيره. لكنهما لا يتحاوران مع السلطة الوطنية، ويبتدئان الحديث عنها بالرفض المُطلَق لأن تكون شريكًا فى اليوم التالى بالقطاع، ولا تتورَّع واشنطن عن التضحية بصورتها ومُناقَضَة خطابها القِيَمىِّ المُحايد، لأجل أن تحرمها من الوجود بين الهيئة الأُمَميّة وعلى جدول أعمال الجمعية العامة فى سبتمبر.
والمُفارقة هُنا مُركَّبة، وقد أشرتُ لجانبٍ منها فى مقالٍ سابق. إذ تُفتَح الأبوابُ لرئيس الأمر الواقع فى سوريا، الشرع أو الجولانى، رغم اهتزاز شرعيَّته وعدم اكتمالها داخليًّا وخارجيًّا. وإلى ذلك؛ تُستَبَعد السلطةُ من كلِّ طاولة ومجال حوار، فيما لا يستنكِفُ الصهاينةُ والأمريكيون أن تكون حماس شريكًا مُؤقَّتًا، ويضغطون على أعصابها لانتزاع التنازُلات، ثم يستثيرونها للإيغال فى التشدُّد وتوليد الذرائع.
والحال؛ أنَّ صفاء ذهن الحركة ونواياها يُوجِبُ عليها أن تلتمس التناقُضَ الفجَّ، ولا تفرح باختزال فلسطين فى ذاتها، وقد تبدَّى أنَّ العدوَّ يُحقِّقُ من ذلك مصلحةً مُزدوجة: يبيد القطاع، ويخنق السياسة.
وعليها؛ إن كانت صادقة فى مزاعمها الوطنية، أن تستجير بالسلطة اليومَ قبل غد، لا أن تكون مُنافسًا صريحًا لها، أو خنجرًا أسود فى خاصرتها.
يمتلئ ألبوم حماس بالصُّوَر البطولية التى تُشبِعُ نهمَها للاستعراض ودغدغة العواطف. ومُقابل فَيض الأوهام مجتمعٌ يزحفُ على بطونٍ خاوية، وطوابير لا تنقطع من الضحايا، وخُطَطٌ مُعَدَّة سَلفًا للقضاء على الحياة فى تلك البقعة، وإغلاق المنافذ لاستعادتها وتطبيعها من جديد.
فتنةُ الصورة تُعظّم للحركة حجمها فى مرآتها الخاصة، وفى عيون حلفائها وداعميها؛ لكنها تُقزّم القضية وتُحوِّلها إلى مُشاجرةٍ بين تيَّارَين أُصوليَّين، فيما يُستَثنَى المُكوِّنُ الغالب والأعَمُّ من الفلسطينيين، وتُسحَق حقوقُهم العادلة تحت أحذية الفصائلية المَقيتة، أو مُجنزرات الصهيونية المتوحشة.
ولن تتوقف الصور، ودائمًا يتسع الهامش للمزيد؛ لكنَّ الحركة قد لا تجدُ جدارًا تُعلِّقها عليه حاضرًا أو فى المستقبل.
لا السنواران، الكبير والصغير، أعزّ من عشرات أُلوف الغزِّيين، ولا المُلثَّم والضيف وبقيَّة قادة الحركة، مَنْ قضى منهم فى الخنادق أو يتنعَّم فى الفنادق.
الصورة الوحيدة التى يجب تسييدُها هى حال غزة الراهنة، وقد صارت خرائبَ مُتشابكة، وكُتَلاً من الردم والأشلاء. وأىُّ زَعمٍ لا يعترف بما تسبَّب فيه الطوفان، وأعان نتنياهو وعصابته عليه، ولا يسعى إلى وقف المأساة عند أقرب حدٍّ مُمكن، وبأية فاتورة من التنازُل والتضحيات، فإنه يُقايِضُ الأيديولوجيا بالوطن، والعناصر الولائية بعموم الشعب، ويخوض سباقًا مفتوحًا مع الفناء والتيئيس وتكفير الناس بالأرض والقضية، ولن يكون النصر مُتاحًا فى النهاية، ولا الهزيمة العاقلة، والقادرة على الوقوف مُجدَّدًا للأسف.
قِيلَ بعد الطوفان إنَّ الاجتياح البرىَّ لن يكون نُزهةً، وحذّر الحماسيون من محرقةٍ تنتظر الاحتلال شمالاً، ثمَّ فى دير البلح وخان يونس، وأخيرًا قالوا إنَّ مقبرته ستُحفَر فى رفح، ومرّت كلُّها بتكلفةٍ عليه وعلى الغزّيين؛ إنما لا تُقاسُ شَوكةُ القَدَم بطعنةِ الرقبة أو حَزِّها من الوريد للوريد.
وسيتكرَّرُ الأمرُ فى غزّة؛ رغم كل الحماوة والاستعراض، مع خسائر مُتوقّعة بالتأكيد، ومع معرفة أن نتنياهو غير معنىٍّ بجنوده وأسراه وخسائرهما من الأساس.
الإفراط أدّى إلى التفريط. ومن السعى للتحرير وتطهير السجون قبل أقل من سنتين، إلى المُفاضلة الآن فى رُبع غزّة الخالى من الاحتلال، وفى عِدّة أمتار على خرائط الانسحاب ضمن أيَّة صفقة مُحتمَلَة، واستعادة نسبة من المسجونين بعد الطوفان، وقد تضاعفت الأعداد وراء القضبان ببركات يحيى السنوار ورجاله، وتآكلت ورقةُ الأسرى وتُوشِكُ على التبدّد الكامل.
بدأت حماس من الذروة، وانكسر المنحنى يومها ولم تلحَظ. وعليه؛ فإنها تسير من سيِّئ لأسوأ، وتعاليها على الحقائق لا يُرهقها وحدها؛ إنما يصلبُ الحياة على ركام القطاع، وينفخ نار الجشع والجنون فى صدور أسوأ حكومات الاحتلال.
خلل المنطق تجسّد مُبكّرًا جدًّا؛ حتى أنَّ أسوأ صور الطوفان أخرجتها حماس، واستعان الاحتلال بالكاميرات المُثبَّتة على أدمغة المقاتلين، لتوثيق الوقائع وإعداد أفلامه الدعائية الساخنة.
كان السنوار مشغولاً للصورة، ويبدو أن الحركة كلها قد صارت «سنانير» تتعبَّد فى مذبح اللقطة والادِّعاء، وتنشغل بالمظهر عن الجوهر، وبالعاطفة عن الأثر.
أمَّا الصهاينة فيذبحون دون صخبٍ وتفاخُرٍ من جانبهم، وينكرون ما يراه العالم على الهواء، ورغم كلِّ ما جَنَوه فى غزة والضفة وسوريا ولبنان واليمن لا يدّعون النصر، ويطلبون المزيد؛ انطلاقًا من إعلائهم المضمون الحارق على الشكل الاستعراضى.
الصورة الواقعية أثمن ما يملكه الفلسطينيون اليومَ، والصُّوَر المُدَّعاة من الفصائل أخطر ما يُهدِّد باستدامة المحنة وتعميق مآسيها. وإن كان مقبولاً أن تنعدم النديَّة فى الميدان لفارق القوة والإمكانات؛ فلا يُفهَم ولا يُقبَل أن يُنازِعَ المهزومُ شعبَه فى المَظلَمة، وأن تغريه دقائقُ من الفخر الساذج، وتصرِفَه عن أيام وأسابيع من الإبادة الممنهجة.
لا شىء أهم الآن من الإنقاذ والمُداواة، ولا طريقَ إليهما إلَّا بالنزول لأرض الواقع، وإعلاء الصورة الحقيقة وحدها دون شريكٍ أو منافس، والانقطاع الكامل والاعتذارىِّ عن الأوهام وفتنة الصُّوَر الزائفة.