في العرف الدبلوماسي، تتم حماية السفارات ومقارها ومستودعاتها وأرشيفها من قبل الدولة المضيفة، التي تلتزم باتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع أو أضرارها لدار البعثة، بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961. هذا الالتزام بالحماية يضمن سلامة البعثات الدبلوماسية ويعكس مبدأ حصانة السفارات والممثلين الدبلوماسيين. والدولة المضيفة ملزمة باتخاذ خطوات لحماية مقار السفارات والمستودعات والأرشيف من أي خطر أو ضرر
وفي العرف الدبلوماسي أيضا، تتجاوز حماية السفارات مجرد الواجب القانوني إلى واجب أخلاقي لدعم دور الدبلوماسيين في تمثيل دولهم.
بعض سفارات الدول الكبرى في مصر والتي تقع مقارها في مناطق متميزة بالقاهرة مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية في حي جاردن سيتي العريق تجاوزت أشكال وصور حمايتها وفقا لما نصت عليه اتفاقية جنيف والسلطات الأمنية في مصر طوال الوقت كانت حريصة باتخاذ تدابير واجراءات مشددة في محيط تلك السفارات في اطار العلاقات الدبلوماسية والسياسية المميزة، وعقب أحداث 25 يناير 2011 وما بعدها وعقب ثورة 30 يونيو والاحتجاجات والتظاهرات التي لم تتوقف ومحاولة وصول المحتجين الى مقر تلك السفارات . تم اغلاق الشوارع المؤدية الى مقار تلك السفارات من ميدان التحرير أو من شارع قصر العيني وتحمل سكان المنطقة والمحلات التجارية أعباء تلك التدابير الأمنية.
اتفاقية فيينا تدعو الى المعاملة بالمثل في اجراءات الحماية لكن ما حدث من محاولات الاعتداء على مقار عدد من السفارات المصرية في أوروبا وخاصة ما حدث للسفارة المصرية في لندن من أنصار جماعة الاخوان الارهابية، وتقاعس السلطات الانجليزية في منع تلك الاعتداءات آثار غضب الرأي العام في مصر وفي الخارج وطالبت قوى مدنية وحزبية بالمعاملة بالمثل.. فبريطانيا تدرك جيدا النشاط الاخواني المعادي لمصر منذ 30 يونيو ومع ذلك لم تشدد من اجراءاتها الأمنية أو تضع الحواجز – مثلا -أمام مقر السفارة المصرية في ساوث ستريت بويستمنستر كنوع من " المحبة الزائدة" أو كوضع استثنائي. لكنها لم تفعل.
صباح أمس تم ازالة كافة الحواجز الموضوعة في شارع أحمد ؤاغب بمنطقة قصر الدوبارة بجاردن سيتي وعودة الأوضاع الى طبيعتها بعد وضع استثنائي استمر لأكثر من 10 سنوات ولم تكن له أية علاقة بالأعراف الدبلوماسية المنصوص عليها في اتفاقية فيينا في حماية السفارات في الدولة المضيف. وليس من حق أحد أن يغضب من اجراءات عودة الأمر الى طبيعته في جاردن سيتي.. ومسألة غلق المبنى الرئيسي للسفارة البريطانية في القاهرة فهذا شأن انجليزي خالص لا علاقة لنا به.
التفاعل الشعبي مع قرار ازالة الحواجز واعتباره وفق للعرف الدبلوماسي " معاملة بالمثل " وحفاظا على الكرامة الوطنية كان لافتا وايجابيا ويعكس الثقة الشعبية في القيادة السياسية وقراراتها الحاسمة.. وما أشبه الليلة أو اليوم بالبارحة.
قبل 70 عاما من الآن بدأت القيادة السياسية الجديدة في مصر بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر بعد ثورة يوليو 52 في وضع خطط لتطوير القاهرة كعاصمة للاقليم ومن بين هذه الخطط العمرانية مد كورنيش النيل دون انقطاع من حي شبرا وحتى حلوان ربما لا يعلم الكثيرون من الأجيال الجديدة، أنه قبل منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، لم يكن هناك ما يعرف بكورنيش النيل، ولم يكن مسموحا أصلا للغالبية العظمى من المصريين فى القاهرة برؤية النهر، ناهيك عن الاستمتاع به، فقد كان هذا المنظر الساحر للنيل حكرا على الأجانب ومبانيهم وكبار الأثرياء التى كانت تشرف قصورهم وفيلاتهم على النهر بمراسى خاصة، مثلهم فى ذلك مثل السفارتين البريطانية والأمريكية والثكنات العسكرية الانجليزية والتى كانت تمتد من كوبرى قصر النيل وحتى نهاية المتحف المصرى من الخلف
كان إنشاء كورنيش للنيل وشارع مواز له يمتد من شبرا إلى حلوان، أحد أهم المشروعات التى تبنتها حكومة يوليو فى خطتها الخمسية الأولى بعد استتباب الأمور، وكان مخطط الكورنيش أيضا أحد مظاهر التحدى السياسى لسلطات ومزايا الأجانب فى مصر من جهة، ومشروعا قوميا جماهيريا من جهة أخرى، يعكس انحياز السلطة الجديدة للغالبية العظمى من الجماهير، ويؤكد ما جاءت به من تمكين المصريين من ثروات بلادهم.
فى عام 1954 عهدت الحكومة إلى السيد عبداللطيف البغدادى أحد قيادات تنظيم الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة والذي شغل منصب وزير البلديات والشؤون القروية (يعني وزارة التنمية المحلية حاليا) بتنفيذ مشروع إنشاء شارع كورنيش النيل، من منطقة شبرا الخيمة وصولا إلى حلوان.. انطلق المشروع، وأخذ فى طريقه مساحات كبيرة من الأراضى الخاصة والمؤسسات العامة أيضا مثل المطبعة الأميرية وترسانة بناء السفن التى أسسها محمد على، وتم هدم بعض القصور والفيلات المخالفة على جانب النيل.
أصدر الرئيس عبد الناصر بنقل الثكنات العسكرية الإنجليزية والتى كانت تمتد من كوبرى قصر النيل وحتى فندق هيلتون رمسيس القريب من المتحف المصري.
الأزمة الكبرى تجسدت في مقر السفارة البريطانية التي تطل بحديقتها الواسعة على شاطئ النيل مباشرة. عاد البغدادي الى عبد الناصر لأخذ الرأي والمشورة. فبريطانيا في تلك الفترة مازالت تتواجد قواتها في مصر والجلاء التام لم يتم ومازال لها نفوذها وتأثيرها السياسي في المنطقة والعالم. تقرر منح مسؤولى السفارة مهلة 48 ساعة لإزالة الحديقة ولكنهم ماطلوا في شبه رفض لقرار الازالة.
كان قرار عبد الناصر بازالة الحديقة فورا لفتح الطريق أمام استكمال المشروع..وبالفعل انتهي مشروع الكورنيش في وقت قصير، خلال ستة أشهر فقط، رغم أن فكرة المشروع تحتاج إلي أكثر من أربعة سنوات، وافتتح في شهر يوليو سنة 1955، وأقيم له احتفالات واسعة وفرحة شعبية بحضور عبد الناصر، وكانت تلك الفكرة بمثابة التحول الإجتماعي في مصر، فعرف المصريين لأول مرة فكرة التنزه علي كورنيش النيل والإستمتاع بمنظره وهواه النقي، ليكون أحد مظاهر التحدى السياسى لسلطات ومزايا الأجانب في مصر من جهة، ومشروعا قومياً جماهيرياً من جهة أخرى.