محمد أيمن

«ريفيرا غزة».. القاهرة بين فوضى المشاريع وحدود الأمن القومي

الأحد، 31 أغسطس 2025 01:24 ص


أعرف — كما تعرف — أن مصر «مالهاش غير المصريين»، وأن هذا الإجماع الشعبي هو خط الدفاع الأول. منذ ما قبل 2011 تغيّر شكل الرهان على كسر الدولة: بدلاً من صدام مباشر، جرى الاستثمار في تفتيت الداخل وتدوير وكلاء محليين يصنعون فوضى مخططة، ثم البناء على نتائجها لاحقاً. لكن مشهد 2023 قلب الحسابات: ضبط الحدود، إمساك الأرض، وعودة اليد الصلبة للدولة في سيناء؛ هذه العناصر أجبرت الخصم على تعديل تكتيكاته لأن تعمير سيناء تحت حماية القاهرة أخطر عليه من أي صدام مفتوح.

لم تعرف مصر عبر تاريخها أنصاف المواقف حين يتعلق الأمر بأمنها القومي. كانت فلسطين دائمًا امتدادًا مباشرًا لحدودها، وكانت سيناء السور الذي لا يُسمح باختراقه. لذلك لم يكن غريبًا أن تُعلن القاهرة منذ اللحظة الأولى للحرب على غزة خطوطها الحمراء الصارمة: لا تهجير للفلسطينيين، ولا إعادة توطين فوق أرض سيناء، ولا عبث بالتركيبة السكانية تحت أي غطاء إنساني أو اقتصادي.

إعادة فكرة "إسرائيل الكبرى"

في الحقيقة، دي كانت واحدة من أكبر الخدمات اللي قدّمها نتنياهو – من غير ما يقصد. الحقيقة إن دي مش مجرد زلة لسان من نتنياهو، ولا حتى مجرد خطاب سياسي عابر؛ دي فكرة قديمة متجذرة في الفكر الصهيوني من أول ما ظهر. المؤسس الأول لدولة الاحتلال "بن جوريون" وغيرُه من قادة الحركة الصهيونية كانوا بيتكلموا عن حدود تمتد "من النيل إلى الفرات"، وظهرت الخرائط دي في مؤتمراتهم ومطبوعاتهم. الفكرة كانت دايمًا حاضرة، لكنها بتختفي أحيانًا في الخطاب العلني وتظهر وقت الحاجة.

ولما رجع نتنياهو وأحياها، كان ده كرد فعل انفعالي بعد ما اتعرض لضغوط واستفزازات سياسية وتحركات أحرجته. لكنه وقع في الفخ: كشف نفسه، وأكد للعالم إن إسرائيل مش دولة بيدور همها على أمن حدودها، لكنها مشروع استعماري توسعي. ومن هنا اتولد حق مشروع أكبر إنك تأمّن نفسك وتحصّن حدودك.

إحنا عندنا قيادة سياسية واعية، ومعاها قوة مسلحة جبارة، تقدر تحميك وتدير ملفات شديدة التعقيد من غير طلقة واحدة – زي ما حصل في ليبيا. لأن المعركة مش دايمًا بالرصاص، الغلبة دايمًا لمن يملك المعلومة ويُحسن إدارتها.

أما بلدنا، فهي بتكبر خطوة ورا خطوة. يمكن التقدم يظهر للبعض بطيء أو مُرهق، لكنه في الحقيقة متراكم: مشاريع اقتصادية بتتفتح باستمرار، ملفات صناعية وزراعية بتشهد نقلة حقيقية، وحتى الصناعات العسكرية بقينا فيها أكثر تطورًا ولسه مستمرين في الصعود.

وده في حد ذاته أكبر كابوس للعدو: مش إنك تحاربه وتستنزف قوتك العسكرية، لكن إنك تبني وتتقدم وتتحول لقوة صاعدة، في الوقت اللي هو بينزف موارد، وبيخسر مخططات، وبيصرف مليارات عشان يوقعك لكن كل ده بيتبخر على الأرض. وده هو الانتصار الأصعب والأعمق: إنك تكبر وتصمد بينما هو يتآكل.

مشاريع قديمة في ثوب جديد

الولايات المتحدة استضافت مؤخرًا اجتماعات وُصفت بأنها لرسم «اليوم التالي» في غزة، بحضور توني بلير وجاريد كوشنر إلى جانب شخصيات إسرائيلية بارزة. ظاهر هذه الاجتماعات كان إنسانيًا، يتحدث عن إعادة الإعمار، لكن الجوهر أعمق: مشروع يُسوق تحت اسم «ترامب ريفيرا»، يقوم على تحويل غزة إلى واجهة استثمارية كبرى، ولكن بعد تفريغ جزء من سكانها ودفعهم نحو الخروج الطوعي أو القسري. هنا يختلط الاقتصاد بالأمن، وتتحول فكرة الإعمار إلى صيغة استعمار اقتصادي جديد بواجهة براقة.

ما يُطرح اليوم تحت اسم «ترامب ريفيرا» ليس وليد اللحظة. الفكرة تمتد جذورها إلى أربعينيات القرن الماضي، حين بدأ الحديث عن «الخيار الأردني» و«الخيار المصري» كبدائل لحل القضية الفلسطينية. تهجير عام 1948 أسس للنكبة، ومحاولات 1967 أعادت إنتاج الفكرة من جديد: دفع الفلسطينيين خارج أرضهم، وإفراغ الجغرافيا لتُصبح أكثر قابلية للسيطرة.

في السبعينيات والثمانينيات عادت مقترحات توطين الفلسطينيين في سيناء تحت غطاء تنموي، ثم تكررت بعد 2005 مع انسحاب إسرائيل من القطاع، لتُطرح مشروعات عن «منطقة حرة مشتركة» تربط شمال سيناء بغزة. واليوم يُعاد تدوير الفكرة نفسها في صورة استثمارية لامعة: منتجعات، شواطئ، مشروعات إعمار، لكن الهدف الاستراتيجي ثابت كما هو — إزاحة الثقل الديموغرافي الفلسطيني خارج حدود فلسطين التاريخية.

من الناحية الجيوسياسية، يحمل المشروع في طياته إعادة هندسة للواقع الفلسطيني: التخلص من الكتلة السكانية التي تُعد تهديد لإسرائيل، وربط الشريط الساحلي بممرات اقتصادية تخدم مشروعًا إقليميًا أوسع تديره واشنطن وتراقبه تل أبيب. إنها نسخة معدّلة من «صفقة القرن»، تُعيد تدوير الأفكار القديمة في ثوب إنساني واستثماري.

القاهرة حجر عثرة؟

من منظور التاريخ والجغرافيا، كانت سيناء دائمًا نقطة التقاء الأطماع الخارجية. كل محاولة للعبث بتوازنها السكاني أو الجغرافي تحوّلت إلى تهديد وجودي لمصر نفسها. قبول أي تهجير من غزة إلى سيناء يعني إدخال أزمة مزمنة إلى عمق الحدود المصرية: تركيبة سكانية جديدة غير قابلة للدمج، ممر مفتوح للتوترات الأمنية، وأرضية خصبة للابتزاز السياسي على المدى الطويل.

القاهرة تدرك أن الأمر لا يتعلق بمساعدة إنسانية آنية، بل بمحاولة خلق «قضية فلسطينية جديدة داخل سيناء»، تُحوّل الصراع من مواجهة مع الاحتلال إلى أزمة داخلية تهدد وحدة المجتمع المصري. لذلك جاء الرفض المصري حاسمًا، مدعومًا برسائل سياسية وأمنية متكررة إلى العالم: غزة للفلسطينيين، وسيناء للمصريين.

معركة الوعي والمستقبل

الضغط على مصر لا يجري فقط عبر الاجتماعات والوثائق، بل عبر حرب نفسية مُدارة بعناية: شائعات، تسريبات، فيديوهات مفبركة، ومحاولات لإشعال الداخل المصري بإشاعات عن صفقات أو تفاهمات خفية. لكن القاهرة تُدير هذه الحرب بأدوات مختلفة: ضبط الحدود، حماية الممرات الإنسانية بشروط سيادية، وتوظيف ثقلها الدبلوماسي لقطع الطريق على أي سيناريو يفرض أمرًا واقعًا.

في جوهره، ما يُسمى «ريفيرا غزة» ليس سوى محاولة لاستبدال الاحتلال العسكري المباشر باستعمار اقتصادي مقنّع، يعيد صياغة المشهد لصالح إسرائيل، بينما تُترك فاتورة الكارثة على عاتق الدول المجاورة. لكن التاريخ يقول شيئًا آخر: أن مصر التي خاضت حروبًا وجودية من أجل سيناء لن تسمح بتحويلها إلى ساحة لجوء أو ورقة مساومة في ترتيبات ما بعد الحرب.

البُعد الجيو–استراتيجي

ما بين واشنطن وتل أبيب، يقوم مشروع «اليوم التالي» على معادلة مزدوجة: التخلص من عبء غزة كقنبلة سكانية وأمنية، وتحويل الشريط الساحلي إلى ممر اقتصادي يخدم مصالح إقليمية. لكن القاهرة تقرأ الصورة بشكل مختلف: أي تغيير ديموغرافي على حدودها الشرقية هو إعلان خطر وجودي. ولذلك تتحرك ليس فقط بصفقة رفض، بل بإجراءات ميدانية وأمنية تضمن أن يبقى الممر بين غزة وسيناء تحت سيادة كاملة، وأن تتحول مصر إلى اللاعب الإجباري في كل ترتيبات ما بعد الحرب.

التاريخ يعيد نفسه

كل القوى التي حاولت تجاوز مصر في الماضي اصطدمت بصلابة حدودها: من مشروع توطين اللاجئين في سيناء في عهد الاحتلال البريطاني، إلى خطط التوطين الأمريكية في السبعينيات، وحتى الضغوط الإسرائيلية بعد 2005. واليوم يتكرر المشهد في صورة «ريفيرا غزة»، لكنه يواجه نفس العقبة: مصر ليست مجرد جار جغرافي، بل دولة ذات ثقل تاريخي وجيو–إستراتيجي يجعل من المستحيل فرض أمر واقع دون موافقتها.
»ريفيرا غزة» قد تبدو على الورق مشروع إعمار استثماري، لكنها في جوهرها محاولة قديمة متجددة لإفراغ فلسطين من سكانها. لكن مصر، بتاريخها وثقلها وموقعها، تُعيد صياغة المعادلة: لا توطين في سيناء، ولا تهجير على حدودها، وأي حل حقيقي لا يمر إلا عبر الفلسطينيين أنفسهم، وعبر القاهرة كضامن للأمن الإقليمي.

لهذا المعادلة بسيطة في مظهرها، معقدة في جوهرها: واشنطن وتل أبيب تسعيان لرسم مستقبل غزة بعيدًا عن أهلها، لكن القاهرة تُدرك أن أمنها يبدأ من حدودها الشرقية. لهذا تقف مصر اليوم ليس فقط كدولة مجاورة، بل كقوة إقليمية تفرض على الجميع حقيقة واحدة: أن أي مشروع يتجاهل إرادة مصر أو يحاول تجاوزها لن يرى النور.

وهنا يظل الدرس التاريخي حاضرًا: كل إمبراطورية أو قوة حاولت أن تعيد رسم الجغرافيا من حول مصر اصطدمت في النهاية بحدودها الصلبة. واليوم، مهما تزيّنت الخطط بأسماء براقة مثل «الريفيرا»، فإن القاهرة تظل حجر العثرة الذي يُعيد حسابات الجميع.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب