لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد فكرة تثير فضول الباحثين أو موضوعا تتداوله الأروقة الأكاديمية في جامعات الغرب. لقد أصبح واقعا ملموسا يتسلّل إلى تفاصيل حياتنا اليومية حتى غدا أقرب إلينا من هواتفنا المحمولة التي لا تفارق جيوبنا. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس عن حجم ما يستطيع الذكاء الاصطناعي إنجازه بل عن العلاقة المعقدة بينه وبين الإنسان: من يقود من؟
الهاتف الذي نحمله لم يعد مجرد وسيلة اتصال أو جهاز ترفيه بل تحوّل إلى منصة متكاملة لإدارة الحياة. تطبيقات الذكاء الاصطناعي تتنبأ بخطواتنا القادمة ترشدنا إلى أقرب طريق تقترح لنا ما نقرأ ونشاهد ونسمع تتابع صحتنا بل وتفكّر معنا في قراراتنا الصغيرة والكبيرة. هنا تحديدا يكمن جوهر القضية: هل ما زلنا نملك زمام الاختيار أم أننا بتنا نتحرك وفق سيناريوهات تضعها خوارزميات لا نراها ولا نتحكم فيها؟
هذا التحول ليس سلبيا بالضرورة. لقد حرّر الذكاء الاصطناعي الإنسان من الكثير من الأعباء وفتح أمامه أبوابا غير مسبوقة للإبداع والإنتاجية. الطبيب الذي يقرأ عشرات الأشعة في اليوم أصبح يستعين بخوارزمية قادرة على مضاهاة خبرته بل والتفوق عليها أحيانا في سرعة ودقة التشخيص. الطالب في قريته البعيدة يستطيع أن يتلقى دروسا مباشرة من أرقى الجامعات عبر تطبيق مجاني على هاتفه. والمزارع البسيط صار بإمكانه أن يتابع الطقس ويتنبأ بموسم المحصول ويقارن الأسعار في الأسواق العالمية بضغطة زر.
لكن الوجه الآخر أكثر تعقيدا. نحن أمام منظومة قادرة على تشكيل وعي الأفراد من خلال التحكم في ما يتعرضون له من معلومات وصور وأفكار. إننا نعيش في زمن قد يُختزل فيه الإنسان إلى مجرد "مستخدم" تُغذيه الخوارزميات بما تراه مناسبا لتحدد له ما يحب وما يكره وما يصدّق وما يرفض. وهنا يظهر الخطر الحقيقي: أن نفقد القدرة على النقد والمساءلة ، وأن يتحوّل وعينا الجمعي إلى انعكاس لبرمجيات لا نعرف كيف صُممت ولا من يملك مفاتيحها.
المعادلة إذن ليست في أن الذكاء الاصطناعي يساعدنا أو يهددنا بل في طبيعة العلاقة التي نقيمها معه. هل سنظل قادرين على توظيفه لخدمة الإنسان ، أم سنتركه يقودنا نحو مستقبل نصبح فيه تابعين لما ينتجه؟
ثمة فارق جوهري بين أن نستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة وأن نستسلم له كمرجع. الأداة تعني أننا أصحاب القرار نحدد الهدف ونختار الوسيلة. أما المرجع فيعني أننا تخلينا عن عقولنا لصالح عقل إلكتروني مبرمج. ومتى حدث ذلك لن يكون التحدي في الذكاء الاصطناعي ذاته ، بل في هشاشة الإنسان الذي لم يعد قادرا على قيادة نفسه.
من اللافت أن المجتمعات الأكثر وعيا بدأت تناقش ليس فقط أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بل حقوق الإنسان في مواجهة الآلة. هل يحق للآلة أن تعرف عنا كل شيء بينما يظل مصمموها في الظل؟ هل يحق لها أن تُقنعنا بما نرغب ونستهلك ونصدّق؟ وهل يحق للإنسان أن يحتفظ بمساحة "خاصة" لا تخترقها الكاميرات والبرمجيات والبيانات الضخمة؟
الإجابة لا تكمن في الخوف ولا في الانبهار. بل في إدراك بسيط: أن الذكاء الاصطناعي مهما تعقّد وتطور يظل من صنع الإنسان. وإذا كان الهاتف في جيبك يحمل عقلا إلكترونيا يتعلم منك فلتكن أنت أول من يحكمه ويضبط إيقاعه. التكنولوجيا في النهاية لا تقود إلا من سمح لها بأن تقوده.
قد يكون السؤال الأكثر إلحاحا اليوم: كيف نصنع أجيالا قادرة على أن تعيش في هذا العصر دون أن تفقد هويتها؟ كيف نزرع فيهم القدرة على التفكير النقدي والقدرة على استخدام التكنولوجيا بوعي ، لا أن يكونوا مجرد مستهلكين لها؟ هنا فقط يتحدد الجواب: الإنسان هو القائد إذا امتلك الوعي والآلة هي القائد إذا غاب وعي الإنسان.
إنها معركة صامتة لا تُخاض في ميادين السياسة ولا ساحات الحروب بل في داخل كل فرد. في كيفية استخدامه لهاتفه لطريقة تعامله مع المعلومة ولحدود ثقته فيما تقوله الخوارزميات. ولعل المستقبل لن يكون لمن يملك التكنولوجيا فحسب بل لمن يملك الوعي بكيفية توجيهها.
فالذكاء الاصطناعي في جيبك قد يحررك أو يقيدك. هو أداة إن شئت وقيود إن غفلت. وفي النهاية يظل السؤال مفتوحا: من يقود من.. الإنسان أم التكنولوجيا؟