حازم حسين

فئران فلسطين كلاب الشاباك.. عن الإخوان بكل أطيافهم وقد صاروا لواءً فى جيش الاحتلال

الأحد، 03 أغسطس 2025 02:00 م


على قدر الخِفّة البادية فى المشهد، وما ينطوى عليه من كوميديا سوداء، صادمة للوعى ومُضادّة للمنطق والفطرة السليمة؛ فإن ما شهدته تل أبيب نهار الخميس الماضى يتخطَّى لحظة السقوط المباشرة، ويتجاوز كونَه كَشفًا صارخًا لحقيقة الإخوان وبقية أطياف الأصولية الدينية، إلى نوعٍ من التحالُف العلنىِّ حينًا، والضمنىِّ فى غالب الأحيان، بين اليمين المُتطرّف على الناحيتين: حماس ومَنْ يُشبهونها على الأرض المُحتلَّة وخارجها، والليكود وائتلافه التوراتى فى دولة الاحتلال.

والمُفارقة الأكبر ليست فى الاحتشاد على مقربةٍ من السفارة المصرية، أو توجيه اللوم وأصابع الاتهام تجاه مصر بدلاً من المُتَّهم الحقيقى المُتَعَيَّن، على سوء هذا الفعل ووضاعته قطعًا؛ إنما فى الخلفيات التى تأسَّست عليها الفكرة وتظهّرت ملامُحها، وما عبَّرت عنه من توافقاتٍ بين العدو الظاهر، وفريقٍ مِمَّن ينسبون أنفسَهم للقضية بالكلام، ويُعادونها بالسلوك، ويتآمرون على وجودهم المُهَدَّد وراء الخطّ الأخضر، سواء عَلموا بهذا، أو جهلوه غباءً وتجاهلوه عمدًا وتغابيًا.

كانت المُظاهرة مُرخَّصةً من إسرائيل، ما يعنى أنَّ إخوان تل أبيب ذهبوا بورقتهم إلى الأجهزة الأمنية العِبريّة، ويقودها وزير الأمن القومى شديد التطرُّف إيتمار بن جفير، وحصلوا على توقيعه بالموافقة على التجمهر فى أحد أبرز ميادين العاصمة، وتحت حماية شُرطتها؛ ليهتفوا ضد القاهرة ظاهرًا، ويغسلوا أيادى الصهاينة ضِمنيًّا من المسؤولية عن الحصار والتجويع، وعن أعمال الإبادة الجماعية الجارية فى قطاع غزة لنحو اثنين وعشرين شهرًا تقريبًا، قضى المُحتجّون أغلبها فى صمتٍ مُطبق، كان يُمكن تفهُّمه سابقًا على معنى الخوف وعدم الانجراف فى المُغامرة، إنما بعد الوقفة لم يَعُد له من دلالةٍ سوى القبول المُطلَق، أو لنَقُل إنه التوظيف السياسى لأغراضٍ دعائية وأيديولوجية.

وفيما يُعرَف أنَّ الدعوة تقف وراءها الحركة الإسلامية (فرع الإخوان فى الأراضى المُحتلَّة)؛ فقد سَعَت بعضُ عناصر الجماعة إلى تمييع اللحظة وتحريف السرديَّة، بعد كلِّ ما تكشّف عن تهافُت الفكرة ووقاحتها، وما أنتجته من أثرٍ عكسىٍّ فى مصر وخارجها، وصولاً إلى الغزِّيين أنفسهم داخل القطاع.

وجاء الاحتيال من باب أنه لا رابطَ بين مُنظّمى الوقفة والتنظيم، وما من أوراقٍ ثُبوتيّة تقطع بأنهم فرعٌ أصيلٌ عن جماعة حسن البنا فى أصلها المصرى، أو أذرُعها المُتلوّنة بما يُناسب الدول والبيئات المختلفة.

والمُغالطة فى تلك المسألة مُركَّبةٌ بقَصد التضليل؛ إذ تأسَّست الحركة منذ نشأتها فى العام 1971 على قاعدة الأفكار الإخوانية، ولم تُفوّت فرصةً للتصريح أو التلميح بانتماءاتها الحقيقية. وحتى انقسامها على نفسها فى التسعينيات؛ كان مُخطَّطًا بمنطق الجماعة المعتاد فى تمييز الناعم من الخَشِن، أكان على طريقة فصل النظام الخاص عن البناء الدعوى والسياسى فى الأربعينيات، أو ابتكار صيغة الحزب المدنى البعيد عن الهيئة الدينية فى ثنائية «الحرية والعدالة» ومكتب الإرشاد بعد أحداث 2011. وهكذا لعب الشمال دور الصلابة المبدئية، وذهب جنوب منصور عباس نحو البراجماتية وخوض الانتخابات والتحالف مع القوى الصهيونية. وهى التركيبة ذاتُها لدى الفرع الأردنى قبل حَلِّه مُؤخّرًا، وعند حماس التى جَدّت للإيحاء بفاصلٍ مَعنوىٍّ باهت بين المكتب السياسى وكتائب القسام.

الجناح الشمالى للحركة الإسلامية يقوده رائد صلاح، وقد أقام إخوانُ مصر احتفالاتٍ عارمةً عقب خروجه من سجون الاحتلال قبل سنوات، وباركوا للأُمَّة عودة «مُجاهد الأقصى» فى بياناتٍ وإفادات رسمية، والجماعة من عادتها ألَّا تحتفى بغير أعضائها، كما لا تنسِبُ شرفًا أو مكرمةً للآخرين.

وزبدة القول؛ إنّ الحركة بفَرعَيها داخل الأراضى المُحتلّة إخوانٌ قطعًا، ومن دون أىِّ شَكٍّ، ولا سبيل من عقلٍ أو إقناع لعَزلها عن جذورها التأسيسية، أو نفى اتّصالها التنظيمى فى الزمن الراهن.

ولمعرفتهم بتلك الحقيقة؛ فقد اختاروا أن يُمرِّروا الدعوة من قناةٍ رماديّة مُخاتلة، أو هكذا توهّموا، عبر ما يُسَمّى «ائتلاف الأئمة فى الداخل»، وبحسب القرائن والمُؤشِّرات فإنه فرعٌ على الفرع، وأداةٌ ثانوية تُوَظَّفُ للتغطية على الطابع النظامىِّ بمَنحه صفةً عموميَّةً مُتّصلةً بالمساجد نفسها لا عمائم المُتسلّطين عليها، وقد شارك فى الوَقفة ثلاثةٌ بارزون من قادتِه: خالد زبارقة، ونضال أبو شيخة، ومشهور فواز، وجميعهم كانوا داعمين للمعزول محمد مرسى منذ انتخابه حتى ما بعد إسقاطه الشعبىّ الهادر فى ثورة 30 يونيو، وأقاموا مراسم التأبين وصلاة الغائب له ولمُرشد الإخوان السابق محمد مهدى عاكف، عضو النظام الخاص ومجموعة سيد قطب فى الستينيَّات وصاحب المقولة الشهيرة «طُزّ فى مصر».

رائد صلاح نفسُه ممنوعٌ عليه الاقتراب من المسجد الأقصى على مسافة 1000 متر تقريبًا، ومن غير المنطقى أن يراه القضاءُ الإسرائيلىُّ خطرًا داخل القدس الشرقية، ثمّ تسمح له شرطةُ الاحتلال بالتجمهر والهتاف فى قلب العاصمة السياسية للدولة العِبريَّة ومَقرّ أهم أجهزتها حتى الآن.

ولا يمكن الاقتناع بأنَّ «بن جفير»، الكاره للفلسطينيين والداعى لإبادتهم فى غزّة والضفَّة وكلّ مكان، سيسمح لفصيلٍ من لونِ حماس بتلك اللحظة السهلة والآمنة من الظهور والذيوع؛ إلَّا لو كان لا يرَاهُم خطرًا من الأساس، أو يعتبر أنّهم يخدمون مشروعَه التوراتىَّ الإبادىَّ بأكثر مِمَّا ينتصرون للضحايا، ويستخدمهم بالقَصد ضمن صيغةٍ مُعتَرَف بها من الجانبين للاستتباع والمُساكَنَة المُتواطئة.

والاحتمال السابق يُعزّزه بروز كمال الخطيب بين المتظاهرين، وهو الشريك الثانى فى قيادة جناح الشمال للحركة الإسلامية، ومعروف بين الفلسطينيين فى غزّة وغيرها، وصولاً إلى عرب الداخل، بلَقَب «كلب الشاباك»؛ اتّصالاً بعلاقته الوطيدة بالأجهزة الأمنية وتنسيقه معها، وما يتوفَّر له من أمانٍ وهامشِ حركةٍ غير اعتيادى.

حتى أنه فى اليوم التالى للوَقفة المشبوهة، ارتقى منبر الجمعة فى أحد مساجد التنظيم، وأوقفَ خطبتَه على إهانة الرئيس الراحل أنور السادات والتعريض به، مُؤاخِيًا موقفَه العدائىَّ بسَردِ قصَّةٍ وَهميَّةٍ عن بطولة المُرشد الثالث للإخوان، عمر التلمسانى، براويةٍ لا مصدرَ لها سوى الجماعة نفسها، التى وصفته سابقًا بأنه «مُجدِّد شباب الأمة»، واعتادت أن تنسِبَ لقادتها فضائلَ لم يتحدَّثوا بها أو تُعرَف عنهم، صانعين أساطير مُضحكةً؛ لعل أكثرها بُؤسًا وفجاجة ما كان مع الإرهابية المُجرمة زينب الغزالى، شريكة «قطب» فى مُخطَّط الإرهاب الستيناتىِّ ومحاولات تفجير القناطر الخيرية لإغراق دلتا النيل.

أمَّا القائلون زُورًا بانقطاع الصِّلة بين الفرع والأصل، فيتجاهلون عن عمدٍ أنَّ بعض أجنحة الإخوان رحّبوا بالتظاهرة وامتدحوها، وسوَّقَوا لها عبر حساباتهم ومنصَّات الجماعة، حتى أنَّ المُتحدِّث الرسمىَّ طلعت فهمى أصدر بيانًا بذات المعنى المشبوه.

والأهمّ أنَّ دعوات التجمهر وحصار السفارات المصرية طفحت من البطن الإخوانىِّ أصلاً، وكانت تجربتها الأُولى مع عضو التنظيم أنس حبيب فى أمستردام، ثم تتابعت المحاولات مع الفروع: رجال الغنوشى فى تونس، وقطيع الصادق الغريانى فى ليبيا، بل عناصر حماس نفسها وحلفاؤهم من الجماعة الإسلامية (الفرع اللبنانى للإخوان) فى بيروت.
وبالمنطق نفسِه تواترت بقيّة الحالات، من دون أثرٍ للمحاولة فى الدوحة وأنقرة مثلاً؛ لأنهما من مُستقرّات الشتات التنظيمى، وسيكون مُستحيلاً نفى المسؤولية عنها، بجانب ما يتولّد عن ذلك من تبعاتٍ سياسية دبلوماسية، وإحراجٍ للحواضن وبيئات الاستتباع والتشغيل.

حركة حماس التى تقصف بياناتها أضعاف ما تستعرضُ بالصواريخ الهيكلية عديمة الأثر، لم تقترب من الحدث على أىِّ وجه، رغم دلالته الفجَّة وأثره شديد الإضرار بالقضية العادلة.

لا يخلو يومٌ من بيانٍ حماسىٍّ يمتدح أو يدين، إنما مع تظاهرة تل أبيب كان الصمت ملجأ خليل الحيّة وعصابته، كما لو أنهم يعتبرونه براءةَ ذمَّةٍ كافيةً من محاولات تشويه السرديَّة لصالح الاحتلال وإخوان غزّة، فيما تفرض تلك الأوقات المُلتبسةُ يقظةً مُضاعَفَة، وبُعدًا صريحًا وحاسمًا عن الرمادية والخديعة ولعبة توزيع الأدوار.

ولا يكتملُ المعنى هُنا إلَّا بإيراد سوابق الإشارات، وقد بدأت منتصفَ الأسبوع الماضى من قائد حماس المُقيم فى فنادق قطر، مُعرِّضًا بالقاهرة من طرفٍ خَفىٍّ، وطالبًا من المصريين الاحتجاج والزحف نحو غزَّة برًّا وبحرًا.

تبعه فى ذلك ما يُعرَفُ بمركز الطوارئ التابع لهم فى القطاع، بزعمه أنَّ البيانات المصرية عن تدفُّق المساعدات لا تعكسُ حقيقةَ الواقع، ثمّ تحذير ماكينة الحركة الإعلامية من عمليات الإسقاط الجوى، بادِّعاء أنها تُمثِّلُ خطرًا على المدنيِّين؛ كما لو أنَّ صناديق الطعام أخطر على الجوعى من صواريخ الاحتلال، ومن مُناورات الحركة ومساعيها لتوجيه التفاوض لصالحها، بمعزلٍ عن المنكوبين وأولوياتهم المعيشية والوطنية.

والواقعُ أنَّ حالة الانسداد الراهنة محكومةٌ بقرارٍ إسرائيلىٍّ ترعاه مشيئةٌ أمريكية، وتتجاذبه حالةُ التعنُّت من جانب المفاوضين فى الطرفين. ودفعةُ الإغاثة الأخيرة ليست ناشئةً عن اتّفاقٍ «صهيو-حماسى»، أو وفق ترتيباتٍ دولية معروفة؛ بل جاءت عبر الضغوط السياسية ومحاولات مصر وغيرها فى الكواليس.

وشهدت الأيام الأخيرة وصولَ الطعام لآلاف المواطنين فى أنحاء القطاع، رغم ما تعرَّضت له القوافل من نهب واعتداءات. أى أنَّ وتيرةَ التدفُّق تحسَّنت كثيرًا عمَّا كانت عليه، ولا معنى للصمت أمس والاعتراض اليوم؛ إلَّا أن الحركة لا يرضيها الحادثُ حاليًا؛ إمَّا للاستثمار الدعائى فى مسألة التجويع، أو لأغراضٍ تتَّصل بلوجستيات التنظيم واقتصاده غير المنظور.

تسيرُ الشاحنات فى مساراتٍ شبه مُؤَمَّنة، وتسقُط المساعداتُ الجوية على مقربةٍ من مُستحقّيها الحقيقيين. ما تزال المأساة التى يصنعها الصهاينةُ فادحةً، والحاجاتُ أكبر؛ لكنَّ الموقفَ الحماسىَّ الغريبَ لا يعكس التحوُّل من المنع أو التقتير إلى الإتاحة النسبية؛ ولو كانت فى حاجةٍ لمزيدٍ من الزيادة.

ما يُثير أسئلةً مُزعجةً ربما عن الرغبة فى السيطرة على مفاتيح الحياة القليلة؛ إمَّا لمُواصلة الإمساك بمصير القطاع، وترويض جموع الغاضبين من الحركة والرافضين لها، أو لتجديد مخزون الأنفاق، وإنعاش الموارد المالية بتوجيه بعض التدفُّقات للأسواق عبر التجَّار المُنتمين للتنظيم. وسبقَ أنْ نُقِل عن القيادى موسى أبو مرزوق قوله إنَّ المساعدات رزق المجاهدين وطعامهم، وما يفيض عنهم يُمكن أن يُوَجَّه لعامة الغزِّيين لاحقًا.

تُبدِى الحركةُ قبولاً ظاهريًّا للخروج من المشهد، وإبرام صفقة تبادُلٍ شاملة يعود بعدها القطاع لإدارة وطنية غير فصائلية أو مُلوَّنة أيديولوجيًّا؛ لكنها فى المُقاربة العملية تتشدَّد فيما يخصُّ أهدافها الخاصة حصرًا، رافضةً تقديم أيّة تضحية من جانبها لإنقاذ المدنيِّين والاعتذار عمَّا جَنَته عليهم فى مُغامرة «الطوفان» غير المحسوبة.

ولا معنى لإحماء النار ضد مصر الآن؛ إلَّا أنهم يخلقون مسارًا جانبيًّا للإفلات من مُقتضيات التهدئة الصعبة، ويسعون لتحميل أخطائهم على أكتاف الآخرين، وفى هذا يُساندهم الإخوان بالجسد التنظيمى العام، وبالفروع المُلحقة به فى أرجاء الأرض؛ حتى تل أبيب نفسها.

إخوانُ نتنياهو المُتظاهرون فى ميدان بازل، حامل الذكرى السيئة لمُخطَّطات الحركة الصهيونية التى انتهت بالاحتلال واختراع إسرائيل من العَدَم، لم يجدوا غضاضةً فى الهتاف ضدَّ مصر بدلاً من العدو الأصيل، ولا الوقوف تحت ظلِّ العَلَم الأزرق دون أىِّ حضورٍ لعَلَم فلسطين.

ولا يصلحُ القانون مُبرِّرًا لذاك التناقض، بادّعاء الخشيّة من التوقيف والمُحاكمة؛ لأنك لم تكُن مُضطرًّا أصلاً لاستئذان القاتل فى حَرف الوقائع وغَسل يده المُلطَّخة بالدم.

مُجرَّد التقدُّم بالطلب اعترافٌ رضائىٌّ بالشرعية، وتغييبٌ الوطن عن التداول تمامًا مع الإقرار بشَطبه من الخارطة.
كأنَّ رائد صلاح وكمال الخطيب وبقيَّة «كلاب الشاباك» الواقفين معهم، من فئران فلسطين والسوس الناخر فى عظم القضية، يُسلِّمون بصيغة الدولة اليهودية الخالصة، ويُقدِّمون لها إسنادًا مجّانيًّا من خارج حظيرتها، أقرب فى حقيقته إلى التواطؤ على الذات، والتصويب على القضية العادلة بنيرانٍ صديقة، أو تدّعى كذبًا أنها صديقة.

وإذا كانوا قد صَمَتوا طيلة الشهور الماضية لأسبابٍ شتّى يُمكن استيعابها؛ فإن نعيقَهم اليومَ لا يتأتَّى عن انفعالٍ بالمأساة القديمة المُستمرّة، بل عن شعورٍ بتآكُل رصيد التنظيم، وتضاؤل فُرَص حضوره فى المشهد الفلسطينى، فإذا بهم يهبّون تطوُّعًا أو مدفوعين للاستثمار فى دماء الغزِّيين والرقص على أشلائهم؛ لا لشىءٍ إلَّا إعانة الحماسيين على أزمتهم الحركيّة الخاصة، بعدما فسدت منهم الطَّبخةُ المشبوهة؛ ولو كان المقابل أن تربح إسرائيل معنويًّا، ويخسر القطاع ماديًّا، بلا انقطاعٍ أو أملٍ فى تغييرٍ حقيقىٍّ وجاد.

لا شىءَ أكثر وضاعة من الهتاف «بالروح بالدم نفديكِ يا غزّة» تحت عَلَم إسرائيل القبيح، وفى حراسة شُرطتها المجرمة، فيما البدائل عديدة ومُتاحةٌ، من أوَّل مُواصلة للاستدفاء بالصمت المُشين كما كانوا بالفعل، وإلى التظاهر أمام الكنيست ووزارة الدفاع ومقر الحكومة والكابينت، أو السير فى تظاهُرةٍ عارمة لكَسر الحصار من الداخل، وتوزيع المساعدات على الجوعى؛ هذا لو كانت نِيَّةُ الدعم صافيةً صادقة، أو شعارات الفداء تتخطَّى الحناجر.

لكنّه التشغيبُ الوقح لأهدافٍ أيديولوجية، وضمن تخادُمٍ غريب تفترِقُ فيه الأُصوليّة الإسلاميّة العنيفة عن مُحيطها العربى، وتتلاقَى مع الصهيونية على إدامة الصراع بالتركيبة الاختزالية والاحتكارية ذاتها؛ لأنه لا أهمية للقضايا ولا قيمةَ للأوطان لدى الإخوان؛ إلَّا لو مَنَحَتهم ما يريدونه؛ وإلَّا فلتذهب بمَظلَمَتِها وسرديَّتِها وأهلها إلى الجحيم.
وإذ تسعى إسرائيل لإدارة مُحرّكات التهجير؛ فالتجويع وسيلةٌ للإزاحة الديموغرافية، وتعميم الاتهام أو اختصاص الداعمين الحقيقيين به يصبُّ فى خزّان الاحتلال حصرًا.

كأنَّ «إخوان تل أبيب» يقبضون على دورهم المُرجَأ من سيناريو حماس، ورسالته الوحيدة إمَّا أن تبقى الحركة، أو تتضخَّم المأساة، أو أن تتكسَّر الحدودُ وتختلط البلدان ببعضها، وتشيعُ النار بين الدول والمجتمعات، كما أراد يحيى السنوار من طوفانه، ويجتهد ورثتُه بكلِّ طاقتهم حتى الآن.

والإخوان بطبعهم يزهدون الأوطان، ويرونها «حفنةً من تُرابٍ عَفِن»، ولا مانع لديهم من مُلاقاة الصهاينة على أجندة التطبيع، فى امتداد شبيه بما قاله وزير خارجية إيران السابق حسين أمير عبد اللهيان، بأنَّ ما يجمعهم بالاحتلال هو الرفض المُطلق لحَلِّ الدولتين.

من هُنا يُصبح ابتزاز مصر هدفًا فى حدِّ ذاته، ومدخلاً لتوريطها فى دائرة النار، أو تصدير أعباء الطوفان إليها فى صورةِ كُتَلٍ بشريَّةٍ يائسةٍ وفاقدةٍ للأمل.

الحرب بما تفتحه من مَسرَبٍ لكَنس الغزِّيين خارج أرضهم، أو ليَكونَ الاحتلالُ غاية المراد. ومُؤخَّرًا تداول مُستخدمو مواقع التواصل مقطعَ فيديو للسلفىِّ المُتطرِّف وحليف الإخوان محمد إلهامى، يقول فيه إنَّ احتلال سيناء سيكون المُؤشِّر الحقيقىَّ على نجاح الثورة، مُبرِّرًا المسألة بأنَّ الإدارةَ المصرية الحالية عدوٌّ لهم، ولا مانعَ من الاستعانة عليها بالعدوِّ الصهيونى.

«إلهامى» كان فى طليعة زوَّار دمشق بعد سقوط الأسد، والتقى «الجولانى» فى أيَّامه الأُولى برفقة مسؤولٍ رفيعٍ من إحدى الدول الإقليمية. والإشارة واضحةٌ لجهة محاولة استنساخ تجربة هيئة تحرير الشام، بما فيها من إرهابٍ وتقتيلٍ وتفكيكٍ للدولة الوطنية، وانفلاتٍ لأطماع الصهاينة جنوبًا من الجولان ومُرتفعات جبل الشيخ حتى أطراف العاصمة.
وبهذا المعنى؛ فإنَّ الثورة كمُفردةٍ من خارج حقل الأُصوليَّة الدينية أصلاً، تترادَفُ لديهم مع إضعاف الدولة الوطنية وتمييع هُويَّتها، وتفكيك مرافقها وأُصولها السيادية، بحيث تسهُل السيطرة عليها أوّلاً، وتتقدَّم التناقُضات الثانوية فيها على الأصليّة، فتُختَصَمُ البيئةُ بالعدو، ويُستَتَرُ بالأخير كحجّةٍ للتهرُّب من الالتزامات لاحقًا.

وتفصيلُ المُجمَل هُنا من نموذج الجولانى مثلاً، أنه يتخفّى وراء ستار الأسد ونظامه الساقط عن الاضطلاع بمهام المداواة والتجميع، وسيكون الاحتلال الرابض جنوبًا ذريعةً دائمةً لتبرير الفشل اليومى، ومُعالجته دعائيًّا ضمن فِقه الضرورة والأولويات.

وهذا ما فعلته «حماس» طيلة عقدين من السيطرة على غزّة بعد الانقلاب المُسلّح ضد السلطة الوطنيّة، لم تُحسِّن فيهما حياةَ الناس، ولا خفَّفت قبضةَ البطش عنهم؛ لأنَّ المُقاومة بالنسبة لها عنوانٌ لا يقبَلُ الشراكة أو التثنية، والتحرير مهمَّة تُسوّغ الشمولية والاستئثار بالحكم، وخَوض المُغامرات بالأبرياء، وعلى العهد نفسِه تُواصلُ التذرُّع بالمأساة التى صنعتها، كما لو أنها القضيّةُ وثابتُها الوحيد.

لكنَّ أغبى ما فى تظاهُرة تل أبيب؛ أنهم يُعبّدون الطريق لـ»بن جفير» وسموتريتش وغيرهما للانقضاض على فلسطينيِّى الداخل لاحقًا.

الدولة اليهودية لن تقبل مُكوِّنًا آخر، وها هُم بعضُ هذا المُكوِّن يُقرّون لها بالشرعية ويتبنَّون سرديَّتها المُلفّقة، ما يفتحُ الباب لتسريع محاولات الخلاص من سكان القطاع والضفَّة، ثم الاستدارة إليهم، أو حتى كَنسهم باتّجاه «رام الله» ونواحيها؛ لو تعذَّر مُخطَّط التطهير الكامل للأراضى المُحتلَّة نحو الخارج.

مصلحة غزة فى صمودها، والصمود يتضادُّ تمامًا مع رسائل إخوان تل أبيب، الذين من مصلحتهم أيضًا أن يتمترسوا وراء الموقف المصرى، لا أن يُزايدوا عليه ويطعنوه من الظهر.

والخلل ليس نابعًا هُنا من الغباء والجهل للأسف؛ بل من الاستخفاف ومُقايضة الرخيص بالغالى، فالمهمُّ لديهم أن يربح الإخوان فى المراكز الكُبرى المأمول فيها لمشروعهم، ولو على حساب التضحية بالقيمة والمبدأ وأثمن قضايا المنطقة.
إسرائيل لن تذوب أو تُذوِّب نفسها ديموغرافيًّا فى محيطها. تُصرُّ على أن تظلَّ بلدًا بهُويَّةٍ يهوديّة خالصة، ما يُصعّب عليها بالضرورة التمدُّد جغرافيًّا لما لا نهاية، وحماية هذا الانفلات مع مخاطر الامتزاج بخليطٍ من المُكوِّنات المعادية؛ لكنها تتسرَّبُ فى الوعى بدلاً عن ذلك، لتُرتِّب مرحلةً تبتلعُ فيها كامل فلسطين من النهر للبحر، ثم تُهندِس المنطقة جيوسياسيًّا من خلال مُرتزقةٍ وتابعين من عَيّنة «الجولانى» أو الإخوان.

ولهذا؛ فأهلاً بالجماعة فى تل أبيب ضمن وقفةٍ سلمية محميّة، بالتزامن مع البطش بفَرعها فى غزة ومعه آلاف الأبرياء بالحديد والنار، ومُحاورة أشباهها فى الشام بلا هوادة من أذربيجان لباريس والعكس، والضغط على أعصاب حزب الله ليُفخِّخ لبنان من داخله، طالما أنَّ إخوانَه غير جاهزين لاستلام الراية وملء فراغ الميليشيا الشيعية.

خطَّة الصهاينة مَعروفةٌ وواضحة، وما كان غامضًا ويتكشَّف منها بالتتابُع؛ أنها لا تُنجَزُ بالنار والاحتيال فحسب؛ بل أهمّ أدواتها وحلقاتها من نصيب الإخوان، ولا فارقَ فى هذا بين المصريين منهم فى الشتات، أو فرعهم «نصف الصهيوني» فى تل أبيب، أو حتى «حماس» التى صار لها من أسماء قادتها نصيب واضح، بعدما تسَنّم «الحيَّة» فيها مسنَدَ القيادة وتلقِّى الأوامر من الحُلفاء والرعاة والمُشغّلين.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب