حازم حسين

كسر طوق غزة وتبديل اللاعبين.. عن الهدنة وحاجة فلسطين للتغيير طالما لن يتغير نتنياهو

الأربعاء، 20 أغسطس 2025 02:00 م


وُضعِت الأوراق على الطاولة مُجدّدًا، وتكثّفت الجهود خلال الأيام الأخيرة لردم الهوّة الواسعة فى مسار المفاوضات. الهدنة على مرمى حجر ظاهرًا، وأبعد ما يكون بحساب التجارب وسوابق الخبرات؛ وليس هذا لشىء إلا أن الإدارة اليمينية فى تل أبيب تتطلع من وراء غزّة، لإحراز ما يفوقها حجمًا وأثرًا، وتُعلّق ملفاتها المفتوحة بامتداد المنطقة على ترتيبات القطاع.

اتَّخذ نتنياهو من الطوفان ذريعة، واعتبر «حماس» منذ اللحظة الأولى طُعمًا يصطاد به خصومه فى محور الممانعة. وإلى اليوم؛ لا يُمكن الجزم بتحقيق باقة أهدافه الكاملة، ولا بما يُرتّبه بشأن لبنان وسوريا واليمن وصولا إلى إيران نفسها، وعليه تظل الحسابات عالقةً فى قناة مظلمة، أضيق من أنفاق الحركة، وأكثر غموضا من نوايا الأصوليين على الناحيتين.

وما من جهود أكبر على الإطلاق مِمّا بذله الوسطاء، خاصة مصر، لأنها أكثر تعرُّضًا لمضارّ الحرب من غيرها، وأشد توجّعًا لمأساة الغزيين، ولا أهداف مضمرة لديها تجاه الفصائل أو الاحتلال، أو مصالح تسعى لتحقيقها من طريق إدامة الحرب، أو الخروج منها بتوازنات تستبقى عوامل التأجج القديمة على حالها المُربكة.

قدّم المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف ورقته بعد سقوط التهدئة السابقة فى مارس، وأطاحتها حماس بالشروط والاعتراضات؛ فتدخلت الدوحة بنُسخة مُحدّثة بدت أقرب لتصوّرات الحماسيين؛ لكنها قوبلت بالرفض من جهة نتنياهو وعصابته التوراتية، واليوم تتشكّل ملامح المحاولة الثالثة تحت سماء القاهرة، وبعد جولات علنية وفى الكواليس لإعادة النظر فى التفاصيل وضبط صياغتها، والإشراف المباشر على مسار الحوار بين الفلسطينيين أولاً، ومع الشريكين من قطر والولايات المُتّحدة، وصولاً بالمخرجات المشمولة بما يُشبه الإجماع إلى تل أبيب.

ضاقت مساحة الاختلافات كثيرًا عمّا كان فى السابق، وبحسب المُتاح من المؤشرات، فقد وافق الجانب الفلسطينى على إبرام صفقة جزئية، تقضى بإطلاق نصف الرهائن الأحياء والموتى، والدخول فى وقف مؤقت لإطلاق النار مدّته ستين يوما، يتزامن مع مفاوضات بشأن الإنهاء الدائم للحرب، وإنجاز بقية مراحل التبادل، وبدء خطّة التعافى المبكر وإعادة الإعمار.

لم تعُد مسألة خرائط الانسحاب عائقًا لدى الحركة وقادتها، ويبدو أنهم بصدد  مُقاربة بشأن السلاح أيضًا؛ إنما على صيغة التحييد لا النزع. بمعنى أن يُجمَع فى نقاط تحت رقابة مُحايدة، وأن يُستعان على المهمّة بقوّات دولية وإقليمية ترعى مسار النزول عن شجرة الاحتدام، إلى فسحة «اليوم التالى» وإعادة تطبيع الحياة فى غزة.

وتظلّ المُعضلة الكبرى لدى حكومة الاحتلال؛ إذ لم تكُن مُرحّبة فى أى وقت مضى بإسكات البنادق وتسوية الجولة سياسيا، وقد لا تُغيِّر رؤاها ومُحرّكات عملها اليوم. لا سيّما أن نتنياهو انتقل فى الآونة الأخيرة من الصفقة الجزئية إلى المُطالبة باتفاق شامل، ومن ثنائية استعادة الأسرى وإفناء حماس، إلى باقة أهداف خماسية تتضمن فى أخطر نقاطها فرض الهيمنة العسكرية على القطاع.

والأصل أنه لولا واشنطن ما استمرّت المأساة كل هذا الوقت، ولن يتحقّق الاعتدال ثم يأخذ المنحنى مساره الهابط إلا من جهتها أيضًا. أى أن زعيم الليكود لو تُرِك لأهوائه فلن تكون هناك صفقة أو إبطاء فى وتيرة القتل والتجويع، وما من مؤشِّرات تُرجِّح لديه أن البيت الأبيض يضيق فعليا بما يجرى فى فلسطين، أو يتّجه إلى اتخاذ موقفٍ جادٍّ له طابع الإملاء على الحليف العبرى، وقد كانت أحدث رسائل ترامب قبل يومين القول إنه لا سبيل لحلحلة الأوضاع إلا عبر المواجهة والقضاء على الحركة.

يُبدى الوسيط الأمريكى ظاهرًا ما يُشبه الأسى على معاناة المدنيِّين، ويوحى بالرغبة فى وقف المقتلة واسترداد الرهائن؛ إنما لا يُترجِم هذا عمليًّا من أى وجه، كما لا يخرج عن أجندة الحكومة الإسرائيلية التى تربط الساحات ببعضها، وتتطلّع إلى طهران من جهة غزة، وإلى سوريا ولبنان والعراق وحتى اليمين البعيد منهما معا، وتخشى أن تُغلِق جبهة فيتعذّر عليها أن تحسم الاشتباك مع غيرها.

والحال؛ أن ما اعتبرته المُمانَعة منحة ربانية وجيوسياسية، كان محنةً حقيقية اصطنعتها بنفسها وتورّطت فيها إلى النخاع. وإذا كان معروفًا أن فلسطين لم تكن أكثر من حجّة عاطفية لتغطية الأيديولوجيا الشيعية بما وراءها من نزوعٍ قومى صارخ؛ فالخلاصة الأخيرة أن ما رُسِم على الخرائط بالنار ليكون دفاعا مُتقدّمًا، تحوّل إلى فخاخ ونقاط استدراج، وقيَّد المهزومين إلى بعضهم بحبل واحد، بحيث لم يعُد فى مقدور أحدهم أن يُغيث الباقين، ولا أن ينجو بمفرده من المذبحة.

نظرية «وحدة الساحات» التى أرساها قاسم سليمانى، صدّرت لأصحابها شعورًا زائفًا بالمقدرة والأمان. وعندما وقعت الواقعة على رؤوسهم، تكشّف أنها ليست أكثر من شعارٍ لا ظلّ له على الأرض، بل المفارقة أن الصهاينة كانوا أكثر إخلاصا لذاك الشعار من رافعيه، ووحّدوا الساحات فى الاستهداف، وربطوها فى الاقتتال والتسوية، وفيما ينظر كل طرف فيهم إلى بيئته المنسحقة تحت أطنان البارود والاختراقات العميقة، يُستدعَى الصهاينة للجلوس مع الواحد منهم؛ فيُرتبون أفكارهم بعد جولة واسعة على بقيّة القائمة أوّلاً.

وإذ تنفتح بطن غزّة وتخرج أحشاؤها بالنار والجوع؛ فالوضع العالق مع حزب الله فى لبنان ينعكس على ترتيبات القطاع، والعكس أيضًا، ولا تُخلّى الجمهورية الإسلامية سبيلهما بينما تتحضّر لجولة ثانية مع الدولة العبرية، كما أن الأخيرة لا توفّر الأذرع من خطط الاستهداف الواسع للمحور بكل مُكوّناته، وإمّا أن تُجهز عليها أوّلاً قبل العودة إلى الرأس، أو تُبقيها ذريعة دائمة للتحرُّش والاستفزاز وإبقاء الجمر والعًا تحت الرماد.

والقصد؛ أن خطوط الدراما المتشابكة منذ «طوفان السنوار» لم تتفكّك بعد، وما تزال موصولة ببعضها، أكان فى وعى المُمانعين أم فى سلوك المُحتلّ. وعليه؛ فإن ما يُدار بشأن حماس فى القطاع يُراد له أن يكون أُمثولة للحزب فى لبنان، وما ستُسفر عنه الترتيبات فى بيروت سيكون رسالة تحذير صاخبة لطهران.
وكلّما تعطّل الإنجاز فى ساحة؛ تزداد الأمور تعقيدًا فى أختها، لتصير كل واحدةٍ محفّزًا للأخرى وقيدًا عليها، بمعنى أن كُلفة الهزيمة جنوبًا تُصعّد الانفعال وخطابات التشدّد شمالاً، وما يتنازل عنه طرف يُومِض لغيره بالأنوار الحمراء عن قسوة التنازلات ومآلاتها الغامضة.

لُعِب بالجميع على مدار اثنين وعشرين شهرًا، وكانوا يتعثّرون فى أخطائهم وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعًا. وبهذا؛ فجّرت هجمة الغلاف بركانا لا قِبَل للفصائل وحاضنتها به، وتسبّبت حرب الإسناد والمُشاغلة فى تسعير المعركة، وإيهام حماس بأنها لا تقف وحدها، وبأن المدد آتٍ إن تعقّدت الأمور وأشرفت بها على الهلاك. فيما استُدرجت إيران ببطء من جهة دمشق، وصولاً إلى جغرافيا فارس الحصينة، بعدما كُسِر الهلال الشيعى وأُخرجت الشام بكاملها من عصمته.

كان السياق شبيها بشدّ الحبل، أو لعبة نيوتن الشهيرة. طرفان على طرفى نقيض يتقفيّان أثر بعضهما، إنما لا طرف قادرا على إطاحة الآخر تمامًا من الصورة، أو الاعتراف بانعدام التكافؤ أو استحالة الحسم. وعليه؛ كان نتنياهو يشدّ كُلما أرخت حماس، والعكس بالعكس، والنتيجة أن الهُدَن تتطاير فى الهواء، وتتقادم أوراقها سريعًا. ما يقبله الأول يرفضه الثانى، ثم يُقرّ صيغة وسيطة يرفضها الأول، وهكذا دواليك من دون مللٍ أو انقطاع.

يُمكن اقتفاء تلك القصّة الممجوجة فى عديد الجولات السابقة، ما بعد الهُدنة الأولى أواخر نوفمبر 2023، ثم آلاف الساعات من الجدل والرسائل المُتبادلة بين القاهرة والدوحة وتل أبيب وأنفاق غزة، مرورًا فى بعض الفترات بباريس أو روما وغيرهما، ووصولاً إلى الترضية التى استُقبل بها ترامب قبل يومٍ من تنصيبه فى يناير الماضى، وإفسادها بعد مرحلتها الأولى ليدخل ويتكوف على الخط بصفته التمثيلية الجديدة، وتضع الإدارة الجمهورية يدها على مفاتيح الحلّ والعقد.
والمعروض اليوم أقل كثيرًا مِمّا كان قبل شهور أو سنة، وبالنسبة للطرفين على السواء؛ لأن الغزيين خسروا آلاف الأرواح وتقطّعت بهم سُبل الحياة الطبيعية فى أماكنهم، وهُجّروا بدل المرّة مرّات، وتأكل خزّان الرهائن لدى كتائب القسّام، التى تضرّرت بعُمق وتفسّخت هياكلها وأُطرها القيادية.

أما إسرائيل فقد أوغلت فى الدم إلى الأعماق، وارتكبت ما يقع فى صُلب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وجنت على نفسها أمنيًّا وسياسيًّا، ومن جهة الانقسامات المُتّسعة أفقيا ورأسيا فى بيئتها الداخلية، وتحلُّل دوائر الإسناد والحماية الغربية مُتعدّدة الطبقات، كُلّما كانت تُمارس وحشيّتها بإفراط، وتُعرّى بإرادتها ما عاشت تتستّر وراءه من نمذجة الصور والرمزيات الأخلاقية والمدنية؛ حتى تبدّى للعالم أنها أقلّ كثيرًا من دولة، وأسوأ جدًّا من عصابة نازية.

ومحاولات الاستدراك على الطرفين الآن؛ إنما تنطلق بالأساس من إشفاق على الأبرياء المنكوبين، وعدم احتمال للفالق الذى يشرخ ضمير العالم ويُشوّه وجهه الدميم أصلا. لكنها إلى ذلك؛ تُمثّل هامشًا للإنقاذ على صيغة مُغايرة لِمَا أبلاه الاستهلاك والاعتياد.

أى أن يستشعر الصقور على الجانبين أنهم أضرّوا سردياتهم قبل أن يخدموها، وأن الهزائم والانتصارات معنويّة أكثر من كونها مادية؛ فكلاهما مهزوم عمليًّا فى الحسبة الأخيرة: النازيون الصهاينة لأنهم أبانوا عن عجزٍ واضح ووحشية فجّة، والحماسيون وقد صاروا عبئًا على القضية وثغرة فى جدارها، وبينهما يستكشف الشارع والنُّخب العاقلة من هُنا وهناك، ما عليهم أن يضطلعوا به للخروج من دوّامة الخسارة والصراعات الأبدية.

الصفقة لن تفتح باب الأمل فحسب لما يزيد عن مليونين يزحفون على بطونهم فى غزة؛ بل ستضع الفلسطينيين أمام المخاطر الوجودية وأسئلتها الداهمة، وحاجتهم إلى تجديد السردية وإعادة تكييفها بما يتلاءم مع الواقع بمستجداته الثقيلة، كما تُتيح للإسرائيليين أن يتطلّعوا لصورتهم الحالية فى مرآة مستوية، وخارج صخب الميدان وغباره المتصاعد، ليروا ما جناه عليهم ائتلاف القوميين والتوراتيين المتطرفين، وما جَنوه على أنفسهم باحتضان بمُزاوجة التلمود بالأفكار الصهيونية، واستمزاج أسوأ ما فى الاثنين وصولاً إلى إنتاج مُجتمع من مصّاصى الدماء وشهود الزور.

والأرجح أن نتنياهو لن يُسلّم بالخلاصات الواضحة راهنًا، وسيُواصل حبوه على يديه وساقيه نحو أوهامه لصناعة الأسطورة واستبقاء صورة «ملك اليهود» الذى يُقارن بنظرائه من العهد القديم، لا بآباء الدولة مِمّن ابتدأوا رحلتهم أعضاء فى عصابات واختتموها ساسةً بحُلَل أنيقة، فيما يُنتج اليوم صورة مُضادّة لسياسى نشأ فى حظيرة الدبلوماسية والبزنس، وصار زعيم مافيا يستظل بعَلَمٍ ونشيد، ويُمنّى نفسه بجغرافيا وسيعة بلا حدود نهائية. إسرائيل الكُبرى بحسب التلفيقات الميثولوجية، والتى كَبُرت فى الإجرام فحسب، وتضاءلت فى القيمة والرمزية؛ حتى لدى رُعاتها وحُلفائها المُقرّبين.

يستمد زعيم الليكود الطاقة من بقاء حماس، وحال تنحّيها وإحلال بديل أكثر مشروعية وقبولاً؛ فإن فُرص الاستبدال على الجانب الآخر قد تتزايد. ربما لا يحدثُ الأمر فى يوم أو يومين؛ لكن باب الحديث سينفتح على مصراعيه فيما يخص الحرب وإخفاقات الطوفان وقضايا الفساد المُعلّقة، وسيكون بالإمكان تحجيم الائتلاف أو تفجيره من الداخل، وإخلاء الطريق للتيّارات المناوئة بعيدًا من الابتزاز بالوقائع الاستثنائية، أو التلطّى وراء سردية المخاطر الوجودية والحياة على «حدّ السكين».

إنها مُواجهة بالنقاط لا بالضربة القاضية، وإذا كان مُتاحًا للفريق أن يُبدِّل لاعبيه؛ فليس مفهومًا أن يُصرّ على المنافسة بالأضعف، ومَن يسهُل تطويقه أو استفزازه.. لن يتغيّر نتنياهو؛ إنما يتوجّب على خصومه أن يتغيّروا، وقد أكّدت الوقائع أن مُجاراته تصبُّ فى صالحه، وأن اللعب على أرضه وبشروطه أسوأ ما يُمكن أن يُقدّمه الضحايا لأنفسهم وبيئاتهم.

والمُتوقّع كما جرت العادة؛ أنه سيُشاغب فى بنود الهُدنة المُقترحة من جانب الوسطاء؛ ليضع شروطًا جديدة لا تقبلها حماس، وتعود الكرّة إلى سابق العهد بالوتيرة نفسها. وإذ يطمئن إلى ميثاقية غير مكتوبة مع ترامب؛ فليس لدى الحركة ما يُطمئنها إلى المستقبل القريب أو البعيد، وعليها أن تُقدّم مزيدًا من التنازلات، أو تتسبّب فى مزيدٍ من المآسى. صحيح أنها أخطأت كثيرًا، وما تزال؛ لكن المفتاح سيظل مخبوءًا دائمًا فى دُرج مظلم من أدراج المكتب البيضاوى.

وأقرب مثال على الحال اليوم، خصمان يتلاكمان فى حلبة مُغلقة عليهما، كلاهما نازف وخائر القوى؛ لكن واحدًا يقف على قدميه وفى يمينه قبضة حديدة مُدبّبة، والآخر يجثو على ركبتيه وقد سقط واقى الأسنان من فمه، ولا فرصة لديه ليُسدِّد ضربة قاتلة، أو حتى يرد على الضربات المتتابعة من منافسه المُغطّى بوسائد ومصدّات خشنة من الخارج وناعمة من الداخل. لا أمل فى النجاة تقريبًا، ولا حلّ إلا أن تنتهى المُباراة بأية نتيجة؛ لأن الهزيمة تحقّقت بالفعل، والمُفاضلة بين الخروج حيًّا أو الموت داخل القفص.

إنها كُلفة الإقدام بغير ضرورة ولا استعداد، وعبء التعالى على الإحجام عندما تقتضى المصلحة والمنطق السليم. لنَقُل إنها الوحشية والانفلات وغياب التوازن واختلال موازين العالم؛ لكنها تداعيات الغباء والافتتان بالذات وتعريف القوّة على مقياس إيمانى شعبوى لا يأخذ بالأسباب ولا يحتج على المظالم بما لا يتسبّب فيما هو أفدح منها.

الهُدنة على أى شرطٍ كان؛ إلا التهجير فحسب، ستكون إنقاذا وباب أمل للغزّيين أوّلاً، ولفلسطين وقضيتها كذلك. ولو أن الحماسيِّين أعانوا الوسطاء ولم يُبدّدوا طاقتهم فى الجدل؛ لربما وصلت التفاهمات إلى مُنتهى أفضل، وبتكاليف أقل من البشر والحجر ومستقبل الكيانية الوطنية ومشروعها النضالى.

يجب تطويق نتنياهو من كل الجهات، وقد تأجّج الشارع لديه مؤخّرًا لدرجة تتخطّى المُطالبة باسترداد الرهائن، وتدعو لوقف الحرب وإسقاط الحكومة كلّها. العالم مدعوّ إلى الاضطلاع بأدوار أكبر، والإدارة الأمريكية أمام مسؤولية تاريخية لا تتصادم مع طموحاتها الاقتصادية فحسب؛ بل تتهدّد مشروعها الامبراطورى بقلاقل ومُنغصّات قد تفوق ما مرّ عليها فى أسوأ الكوابيس.

الدائرة العربية الواسعة قدّمت القليل، وعليها أن تُوظِّف عناصر قوّتها الشاملة لإحراز المزيد، وينبغى أن تبدأ السلطة الوطنية رحلة الهيكلة والإصلاح منذ الآن، ثم أن تُتوّج حماس كل هذا بشىء من التواضع والاحتكام للمصلحة وإرادة الناس، وأن تعرف أنها جَنَت على فلسطين؛ إن لم يكن بالأديولوجيا والاستتباع وصرف القضية لحسابات خاصّة؛ فأقلّه بإعانة العدو على الشقيق وتسليم الجغرافيا لُقمةً سائغة لذئب لا يشبع ولا يرتدع عن الافتراس.
يحتاج المهتمّون بغزّة وفلسطين إلى إصاخة السمع للقاهرة، لأنها ما تزال الجدار الوحيد الباقى من معمار القضية، وعلى الآخرين التسَمُّع بانتباه أيضًا؛ لأنه كما قال وزير الخارجية «لن نقبل بالتهجير ولن نشارك فيه ولن نسمح به»، والثلاثية مفتوحة على كلِّ الاحتمالات العاقلة والهائجة.
الفاصل المهم فى الانسداد الراهن أن تُنتَزع خناجر الأيديولوجيا من الجسم الفلسطينى؛ ليكون بإمكانه أن يبرأ من اعتلالاته الذاتية، وأن تتفرّغ مناعته للعدوى المنقولة من الخارج. والأهم ألا تعود الفصائل للارتباك والتعثُّر، وألا تستمد من مُماطلة نتنياهو المُتوقّعة وقودًا لإدارة محركات التغابى مُجدّدًا.
أُهدِرت الطاقات طويلاً على طريق إقناع الفلسطينيين بالبديهيات، ولا فائض يسمح اليوم بمزيد من الإهدار، ولا عائد من التصلُّب الأصولى إلا توالى النكبات، ولا معنى لأية شعارات لامعة ما لم تتجسّد الدولة فى وعى أصحابها أوّلاً.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب