ما زلنا مع الحديث عن الحضارة المصرية القديمة وكيفية التفاعل معها، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة.
حدث بالفعل
منذ سنتين تقريبًا، كنت فى زيارة للمتحف المصرى بالتحرير لمعاينة بعض مواقعه من أجل تصوير أحد مواسم برنامجى "قعدة تاريخ"، وخلال جولتى فى المتحف سمعت صوتًا عاليًا مزعجًا، التفتتُ إلى مصدر الصوت فوجدت مجموعة من السائحين العرب يقفون أمام تمثال الملك رمسيس الثانى، وأحدهم- ضخم الجثة وملتح ويرتدى جلبابًا قصيرًا- يقاطع المرشد السياحى ويصيح بهيستيريا وهو يشير للتمثال: "هذا فرعون! هذا فرعون!"، وهو يعنى فرعون النبى موسى عليه السلام، المذكور فى كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم، الذى لا توجد أية أدلة أثرية تؤكد هويته بين ملوك مصر، وقد وُجِدَت اجتهادات- لا أستطيع وصفها أنها قوية علميًا- لمعرفة "من هو فرعون موسى"، فقال الكثيرون إنه الملك المحارب رمسيس الثانى "حتى إن إحدى المنظمات اليهودية الأجنبية كانت قد اعترضت منذ عقود على وضع تمثاله فى الميدان الشهير أمام محطة قطار مصر فى القاهرة"، وقال غيرهم إنه ابنه الملك المحارب مرنبتاح الأول، صاحب أول ذِكر لكلمة "إسرائيل" فى لوحته الشهيرة التى عدد فيها المدن والشعوب التى هزمها، وأشار البعض للملك أخناتون بسبب تضمن طقوسه عبادة الإله أتون نوعًا من دمج ذاته بالإله، بل وقد ذهب الكاتب المصرى الكبير الأستاذ عبدالحميد جودة السحار فى عمله الموسوعى الثرى "محمد رسول الله والذين معه" إلى أن فرعون موسى هو الملك المحارب تحتمس الثالث، وأن الملكة حتشبسوت هى "امرأة فرعون" وأن المهندس والمستشار الفذ "سنموت"- صاحب تصميم وتنفيذ معبد الدير البحرى- هو"مؤمن آل فرعون".
أيًا يكن، فإن "فرعون موسى" وقصته القرآنية قد حولهما المتطرفون إلى "صداع" حقيقى ووسيلة للهجوم على الحضارة المصرية القديمة كلها، فقد عمموا مثالب شخصية فرعون من طغيان وادعاء للألوهية العليا واستخفاف بقومه وتذبيح للناس وإكثار للفساد، على كل حضارة الفراعنة.. فى سبيل وصمها بأنها كانت "حضارة عبودية طاغية باغية ظالمة كافرة" أو كما قال أحد كبراء هؤلاء السفهاء "حضارة عفنة".
فى المقابل، ارتكب بعض المدافعين عن حضارة أجدادنا خطأ كبيرًا، فقد وقعوا فى فخ هؤلاء المتطرفين، واستِدرِجوا إلى تلك "الخناقة" العبثية، ووُضِعوا طواعية موضع المُتهم المدافع عن نفسه، رغم أنه ليس من الحكمة فى شىء أن تسمح لخصمك أن يختار هو ساحة المعركة، ولا أن يجبرك على اتخاذ موضع الدفاع، بل ولا أن يقحمك من الأساس فى معركة عبثية لا طائل منها.
المدافعون عن حضارة مصر القديمة تتلخص ردودهم فى القول إن فرعون موسى لم يكن مصريًا بل كان أجنبيًا وغالبًا من الهكسوس، ويقدمون قائمة من الاستدلالات والنظريات ربما يلخصها كتاب الزميل الأستاذ عاطف عزت "فرعون موسى"، الذى اجتهد فيه لتقديم أدلة لغوية وتفسيرية لنظرية أن فرعون لم يكن مصريًا، بل وذهب البعض الآخر لنظرية تقول إن المصريين القدماء لم يكونوا يعبدون أكثر من إله بل كانوا يعبدون إلهًا واحدًا، وفسروا وجود باقى الآلهة بأنه خطأ منا فى فهم الديانة المصرية القديمة، وأن هؤلاء هم بمثابة "الملائكة" فى الأديان الإبراهيمية الثلاثة "اليهودية والمسيحية والإسلام".
لسنا فى سياق للنظر فى هذه النظريات والآراء، ولكن السياق هنا هو إجابة سؤال بسيط: ما المشكلة فى أن يكون فرعون موسى هو أحد ملوك الحضارة المصرية القديمة وأن يكون مصريًا خالصًا؟
سأشرح لكم ما أعنيه.. فى التعبير الشعبى توجد فكرة تقول إنك إن تعرضت لتهديد من أحد بسكين، فاكسر السكين.. وهذا ما أفعله، المتطرفون يهاجمون الحضارة المصرية القديمة باستخدامهم شخصية "فرعون"، ويحاولون "زنق" المدافعين عن حضارتهم فى "زاوية ضيقة" هى "نفى مصرية فرعون".. حسنًا، دعونى أقول لكم، فرعون موسى مصرى.. ما المشكلة؟ لاحظ أننى هنا "أساير" هؤلاء القوم فى إقحامهم الدين فى علم التاريخ، لكنى أطبق مثل "خليك مع الكداب لحد باب الدار".
حضارة استمرت- دون ذكر أطوارها السابقة للوحدة- منذ العام 3200 ق.م. حتى الثلث الأخير من الألفية الأولى قبل الميلاد، وحكمتها 30 أسرة "والأسرة هنا بمعنى النظام الحاكم"، وأقامت 3 ممالك "القديمة والوسطى والحديثة"، وقدمت أعظم نموذج حضارى فى العالم القديم، وامتد أثرها عبر القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأوروبًا، وحكمها منذ عهد الموحد مينا إلى نهاية عهد الملكة البطلمية كليوباترا السابعة بين 300 و330 ملكًا.
ما المشكلة أن يكون أحدهم "طاغية دموى مصاب بجنون العظمة"؟ بأى عقل أو منطق نعمم نموذجه على كل الحضارة الفرعونية؟
بل تعالوا ننتقل إلى "الهجوم المضاد".. هل التعميم المتطرف لنموذج فرعون موسى على كل ملوك مصر القديمة هو قاعدة عامة؟ أعنى هل على هذا الأساس يمكن أن نعمم نماذج مثل يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف والحاكم بأمر الله وتيمورلنك على الحضارة الإسلامية كلها؟ بالتأكيد سيسارع هؤلاء للرفض، إذن فالإنصاف يقتضى الرفض كذلك بالنسبة للحضارة المصرية القديمة، وأى نموذج حضارى إنسانى عبر التاريخ.
دعونى أزيدكم من الشعر بيتًا.. هل يعلم هذا المتطرف- ومن يساقون خلفه- أن قيام ملك مصرى قديم بادعاء أنه "ربكم الأعلى" هو كفر صريح فى معتقد المصريين القدماء؟ فلطالما كان "الرب الأعلى" للمصريين أحد كبار الآلهة القديمة مثل "بتاح" و"رع" و"آمون" "آمون رع لاحقًا"، أما الملك فهو تجسيد للإله حورس ابن أوزيريس وإيزيس، وهو- حورس- رغم مكانته الكبيرة فإنه لم يكن كبيرًا للآلهة.
وأما عن فكرة "الطغيان"، فهل نظر هؤلاء فى حكمة المصريين القدماء- ومنها على سبيل المثال وصايا أبوالملك مريكيرع لابنه- فيما يتعلق بارتباط العدل والحق والانضباط الأخلاقى بمسؤولية الملك؟ وأنه فى موضع تكليف من الآلهة ومسؤول أمامها عن سياساته مع شعبه؟ هل تكرار هذه النماذج من "الإقرار بالمسؤولية" عبر عُمر حضارة مصر القديمة، يتفق مع صفة "الطغيان"؟
هكذا يقال لهؤلاء الجهلة الذين لو سألت أحدهم عن آخر كتاب قرأه عن الحضارة المصرية القديمة لما استطاع ردًا، فأقصى ما بلغه منها هو خطبة أو مقولة لفلان أو علان ممن يعتبرون أن اللحية الكثة والجلباب القصير هما المؤهل للحديث ليس فى الدين وحده وإنما فى مختلف العلوم.. فكيف تسمح لنا كرامتنا العلمية والوطنية أن نسمح لأمثال هؤلاء بوضع حضارتنا فى قفص الاتهام؟
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال المقبل.. يتبع.