كريم السقا

مشاهد من دفتر الأيام.. حين تكتب الشعوب رواياتها بين المعجزات والمآسي والفخاخ 4

السبت، 02 أغسطس 2025 02:29 م


حين يُكتب التاريخ، لا يُكتب بحبر المؤرخين وحدهم، بل يُخطُّ أولاً وأخيرًا بحيوات البشر، بآلامهم وأحلامهم وسقوطهم وصعودهم. إن النظريات الكبرى التي نحفظها ونتداولها – عن التنمية والسلطة والسياسة والاقتصاد – لا تكتسب معناها الحقيقي إلا إذا تأملتَ كيف هبطت هذه الأفكار على الأرض، وتقمصت حياة الناس، وتجلّت في عيون الأمهات في أسواق المدينة، وفي عرق العمّال على أرصفة الموانئ، وفي صمت المكاتب الحكومية بين الأوراق المغبرة.

ولأن النظريات، مهما بلغت دقتها، قد تخدعنا حين تنفصل عن التجربة الحية، فلا بد من العودة إلى "دفتر الأيام"، حيث تحفظ الشعوب صورًا خالدة من التحولات الكبرى. وفي هذا المقال، نعرض ثلاث صور متميزة: الأولى عن معجزة آسيوية اعتمدت على عزم الدولة وليس عبث السوق، والثانية عن مأساة لاتينية سقطت بفعل الفساد والتذبذب، والثالثة عن أفريقيا الجريحة الواقعة في قبضة تاريخ طويل من القهر وفشل الحكم.
-----
المشهد الأول: معجزات على ضفاف الأنهار – دروس من كوريا الجنوبية وسنغافورة

ربما لا توجد قصة صعود اقتصادي حديث تفوق في دراميتها وشدّتها ما حدث في كوريا الجنوبية وسنغافورة خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. ما حدث هناك لم يكن مجرد انتعاش، بل كان تحولًا راديكاليًا، من قاع الفقر إلى قمة السباق العالمي في مجالات الصناعة والتقنية والتعليم.

كوريا الجنوبية، في خمسينيات القرن الماضي، بعد حرب أهلية مريرة قسمت شبه الجزيرة ودمرّت بناها التحتية، لم تكن مجرد دولة فقيرة، بل كانت أقرب إلى مأساة تاريخية. الموارد شحيحة، المؤسسات هشة، والمجتمع مثقل بالذكريات الدامية. ومع ذلك، بدأت المعجزة.

السر، كما تكشّفت فصول القصة لاحقًا، لم يكن في مجرد إطلاق السوق أو تعويم العملة، بل في أن الدولة اختارت أن تكون طرفًا فاعلًا ومركزياً في صياغة اقتصادها. أنشأت ما يمكن أن يُطلَق عليه "الدولة التنموية"، وهي دولة ترى أن التنمية لا تترك للصدفة أو السوق وحده، بل تصنع عبر تخطيط صارم، وتدخل ذكي، وتحالفات استراتيجية مع القطاع الخاص.

قادت الحكومة برامج تصنيعية مدروسة، وجعلت من التعليم سلاحًا استراتيجيًا، واستثمرت في القوى العاملة حتى بات العمال الكوريون يُضاهون نظراءهم في ألمانيا واليابان. لم تنشأ "التشايبول" (مثل سامسونغ وهيونداي) في فراغ، بل كانت جزءًا من سياسة مدروسة، حيث دعمت الدولة هذه الشركات، ورافقت نموها بالتوجيه والدعم والرقابة. النتيجة: تحوّل البلد خلال جيل واحد إلى اقتصاد متقدم، وفي الوقت ذاته حافظ على استقراره واستقلاله.

أما سنغافورة، فهي حالة تحليلية فريدة من نوعها. دولة دون عمق جغرافي، بلا مياه عذبة ولا موارد طبيعية يُعتد بها. تجد نفسها في ستينيات القرن الماضي وقد طُردت من الاتحاد الماليزي، وسط محيط مضطرب سياسيًا وعرقيًا. معظم القادة في مثل هذا الوضع كانوا سيبررون الفشل، أو يتذرعون بالظروف، لكن لي كوان يو لم يفعل. بدلاً من ذلك، اتخذ قرارات صعبة، وجذرية.

أسس لي كوان يو دولة نظيفة، منضبطة، لا تتسامح مع الفساد والمحاباة. فتح البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية، ولكن ضمن شروط صارمة تضمن السيادة والاستفادة الحقيقية من رأس المال القادم. الأكثر إثارة للإعجاب كان في طريقته في تحويل "المشكلة" الديموغرافية إلى "فرصة": فقد ركّز على توفير تعليم متطور وتدريب عملي يجعل من أبنائه قوة عاملة لا تضاهى. تطوّر اقتصاد سنغافورة من الصناعات الخفيفة إلى الصناعات الدقيقة والمتطورة، مثل الإلكترونيات والأدوية واللوجستيات، وارتفعت مستويات المعيشة إلى مصاف الدول المتقدمة.

هاتان التجربتان، رغم اختلاف الخصوصيات، تقدمان رسالة صريحة: إن الدولة حين تكون منظمة، ونزيهة، ومصممة، وقادرة على اتخاذ القرار، فإنها قادرة على تجاوز الجغرافيا والتاريخ وتحقيق ما يبدو مستحيلاً.
-------
المشهد الثاني: الأرجنتين – قصة سقوط طويل من القمة إلى الحافة

في المقابل، تقف الأرجنتين كتحذير صارخ من أن الغنى لا يضمن التقدّم، وأن وفرة الموارد لا تعني بالضرورة استقرارًا أو نجاحًا. بل قد تصبح الموارد عبئًا إذا اجتمعت مع فساد النخب، وتقلّب السياسات، وضعف المؤسسات.

تمرّ الأرجنتين منذ قرن تقريبًا بحالة من "الخسارة المنظمة للفرص". فقد كانت في مستهل القرن العشرين واحدة من أغنى الدول في العالم، بفضل صادراتها الزراعية الضخمة وموقعها الجغرافي الواسع واندماجها في النظام الدولي. لكن الثورة في ثلاثينيات القرن، والتدخلات الشعبوية، كسرت مسيرة الاستقرار، وفتحت الباب أمام نظم متعاقبة استخدمت الاقتصاد لأغراض سياسية.

النماذج الاقتصادية التي تعاقبت في الأرجنتين كانت كأنها تجارب متضادة متصارعة: شعبوية قومية تبني صناعات محلية محمية ولكن غير كفوءة، وسياسات تقشفية قاسية تهدف إلى إرضاء الأسواق الدولية ولكن على حساب العدالة الاجتماعية. والنتيجة في كل مرة: انهيار اقتصادي، يلي الانهيار التضخم، وتتكرر الأزمات.

تعمق هذا الاختلال البنيوي في المجتمع نفسه. نشأ ما يُطلق عليه "الاقتصاد الريعي الاجتماعي"، حيث ترتفع نسبة السكان المعتمدين بصورة مباشرة على الدولة؛ عبر الوظائف العامة، والمعونات، والدعم، وهو ما جعل صناع القرار رهائن لضرورات انتخابية قصيرة الأجل، يطبعون النقود لتغطية وعود سياسية، ليتفاقم التضخم، ويزداد الدين، وتفقد العملة قيمتها.

وهكذا، تحولت الأرجنتين إلى ساحة دائمة للفشل المُعاد تدويره، رغم أنها تملك الأرض الخصبة والعقول العلمية والثروات الهائلة. ومأساتها تلخص درسًا بليغًا: لا شيء يقتل النمو كالسياسات المرتبكة وفقدان الثقة في الدولة والمؤسسات.
--------
الشمهد الثالث: أفريقيا جنوب الصحراء – الجراح المفتوحة التي لم تندمل

تقدم أفريقيا جنوب الصحراء مشهدًا مركبًا، يتشابك فيه العامل الجغرافي مع الإرث الاستعماري، وتنعكس فيه تعقيدات الانقسامات المجتمعية، والهشاشة المؤسسية، وسط مشهد يراوح بين الأمل والإخفاق.

الجغرافيا كانت أول التحديات. مناخ استوائي قاسٍ ينشر الأمراض والأوبئة التي تفتك بالقوى البشرية. أراضٍ داخلية بدون منافذ على البحار، تعيق التجارة وتضاعف تكاليف حركة البضائع. ندرة المياه، وتقلبات الطقس، والتصحر، كلها زادات من هشاشة الزراعة، المصدر الأول لرزق ملايين من سكان القارة.

ثم جاء الاستعمار الأوروبي، لا ليؤسس دولًا حديثة كما تشي بعض الروايات، بل ليسرق الثروات ويقسم القوميات، ويرسم حدودًا مصطنعة اغتربت عن الواقع العرقي والثقافي. غُرست معالم الدول الحديثة دون مؤسسات حقيقية، ودون عقد اجتماعي يربط الحاكم بالمحكوم.

النتيجة: أن النخب التي استلمت الحكم بعد الاستقلال لم تجد أمامها بنية ديمقراطية، وإنما نموذجًا سلطويًا لا تعترف فيه الدولة إلا بنفسها. وسريعًا ما تغلغلت السلطوية العنيفة، انقلبت على الديمقراطيات الناشئة، وازدهرت ثقافة الفساد والمحسوبية.

وما سُمي بـ"لعنة الموارد" جعَل الأمور أكثر صعوبة. في كثير من الدول، كانت الثروات – النفط، الذهب، الألماس – سببًا للصراع بين الساسة والجماعات المسلحة، أكثر من كونها أساسًا لبناء الدول. بدلًا من بناء المدارس والمستشفيات والبنية التحتية، ضُخت الثروات نحو حسابات النُخب، وتم تسليح القبائل.

كل هذه العوامل متداخلة، ولا يمكن الفصل بينها. الجغرافيا أصل الأزمة، ولكن التاريخ عمّقها، والسياسات بعد الاستقلال رسخت بشاعتها. أفريقيا، رغم وفرة الإمكانيات، ما زالت تواجه "الفخ الهيكلي"، حيث تتضافر عناصر الفشل، وتقاوم التنمية كلما حاولت أن تبدأ.

خاتمة: الدروس التي لا تُنسى

الصور الثلاث تشكل مرآة عاكسة لتجربة الإنسان المعاصر مع إدارة ثرواته، علاقته بالدولة، واستجابته للمحن والفرص. حينما تكون الإرادة السياسية صادقة، والبيروقراطية منضبطة، والسياسات رشيدة، تُصنع المعجزات. أما حين يختلط الطمع بالسطحية، وتتغلب المصالح الضيقة على المصلحة الوطنية، تتحول الفرص الكبيرة إلى مآسٍ تاريخية.

ولعل أهم ما تُظهره هذه الصور، هو أن المصير ليس حتميًا، بل يصنعه الرجال والنساء القادرون على الرؤية، الصبر، والاختيار الصعب.
وللحديث بقية ..


 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب