أسيوط مدينة ذات تاريخ عريق وتراث منسى، وللأسف هذه المدينة التى كانت تقوم من مطارها فى الربع الثانى من القرن العشرين رحلات لمدن أوربا توارت فى الظل، وبات علينا الآن أن نرد لها رونقها، وفى هذا المقال سأخذك عزيزى القارئ فى رحلة مع تاريخ وتراث أسيوط.
قامت المدينة الأصلية على ربوة مرتفعة تشرف على ما حولها من الأراضى الزراعية، وبذلك لا تطغى عليها مياه النيل وقت الفيضان فتغرقها، وإن لزائر المدينة أن يلمس ذلك عن ركوبه للسيارة واختراقه للمدينة مبتدئًا من النيل، إذ يلاحظ أنه قد ارتفع به مسافة تتراوح من ستة أمتار إلى تسعة أمتار، كذلك ارتفاع وسط المدينة (البلدة القديمة)، وبين المدينة القديمة والحديثة ترى انخفاضا متسعًا.
ولعل متسلق الجبل الغربى الذى يحتضن أسيوط، أن يستمتع برؤية المقابر التاريخية ورؤية المدينة من قمة الجبل فى منظر بهيج جذاب بمآذنها الكثيرة وقبابها مختلفة الأشكال والأحجام وعماراتها الباذخة الأنيقة وأشجارها.
مدينة أسيوط الحالية ما هى إلا وليدة مدينة مصرية قديمة أطلق عليها المصريون القدامى اسم سيوط أى الحارس بالمصرية القديمة، وكانت مركزا لعبادة ابوات او وبواويت الذى يرمز له بذئب واقف أو بجسم إنسان ورأس ذئب، وكانت عاصمة القسم الثالث عشر فى الوجه القبلي، على هذا المنوال استمرت المدينة يطلق عليها اسم سيوط طوال تاريخ الفراعنة، وتغير اسم المدينة بعد ذلك وتطور أيام حكم البطالمة لمصر فنسيت كلمة سيوط الأصلية وأطلق عليها الإغريق مدينة ليكوبوليس ومعناها الذئب، واستمر الحال أثناء الحكم البطالمة والرومان ثم الفتح العربى عام 640 م، فنقل العرب اسم المدينة القديم ونطقوه أسيوط أو سيوط، ومن ذلك يتضح لنا أن اسم المدينة العربى الحالى ما هو إلا اسم المدينة الفرعونى المصرى القديم.
ولعل العصور التاريخية التى تعاقبت على أسيوط جعلتها تنال نصيبًا وافرًا من تراثنا الحضارى من مختلف العصور سواء العصر الفرعونى أو الرومانى أو القبطى أو الإسلامي، فتعتبر محافظة أسيوط من مناطق الجذب السياحى وذلك لتوافر الآثار والمقومات السياحية الآتية:
من عصر الأسرات الفرعونية
أثار مير – آثار قصير العمارنه – آثار جبل أسيوط الغربى – آثار دير ريفا – آثار شطب – لوحات حدود مدينة أخناتون – آثار كوم دارا بعرب العمايم – آثار النواجى – آثار عزبة يوسف –آثار دير الجبراوى – آثار عرب العطيات – آثار المعابدة - عبد الرحمن حسن علام- آثار السواقى الثانى عشر بقرية أولاد محمد بهيج.
من التراث القبطي
دير المحرق الذى يضم كنيسة السيدة العذراء وهى آخر محطة للعائلة المقدسة فى رحلتها إلى مصر، حيث عادت منها لفلسطين، وذلك مع انتهاء الخطر على حياة السيد المسيح وهو طفل، مكتبة دير المحرق تضم وثائق نادرة وكتب قيمة – دير العذراء بجبل أسيوط الغربى – دير الأنبا صرابامون بديروط الشريف – دير الشهيد مارمينا الشهير بالدير المعلق بأبنوب – دير الأنبا تاوضروس المشرقى بصنبو – دير السيدة العذراء بدير الجنادلة – دير الأمير تادرس الشطبى بمنفلوط - دير الشهيد مارمينا بصنبو - دير الأنبا كاراس السائح بديروط وفى مدينة أسيوط فى داخل البلد توجد كنيسة القديس مار مرقس الرسول التى تجلت عليها السيدة العذراء.
من العصر الإسلامي
الوكالات بمدينة أسيوط ومنها (ثابت ولطفى وشلبي)، حيث كانت أسيوط طوال العصور محطة أساسية فى نهاية درب الأربعين للتجارة القادمة من كردفان ودارفور وتشاد.
كذلك حمام ثابت بمدينة أسيوط – قنطرة المجذوب بمدينة أسيوط – جبانة المجذوب بمدينة أسيوط – شارع الانكشارى بالقيسارية - المعهد الدينى " معهد فؤاد الأول " بمدينة أسيوط – مسجد المجاهدين بمدينة أسيوط – مسجد جلال الدين السيوطى بمدينة أسيوط – مسجد أبو العيون بدشلوط – مسجد العوامر من عهد عمرو بن العاص بديروط الشريف - مسجد السيد الفرغل أبو تيج.
المعالم الحديثة
متحف مدرسة السلام، هذا المتحف أسسه سيد خشبة الذى ولد فى أسيوط فى أواخر القرن التاسع عشر ومات أبوه وهو فى سن الثالثة فرباه أخوه على بك خشبة، نال العديد من المراتب ففى 1910 انتخب عضوا فى مجلس مديرية أسيوط ثم اختير عمدة لأسيوط سنة 1917 حتى استقال منها فى عام 1924، وكان عضوا فى مجلس النواب ثم مجلس الشيوخ ورئيسا للغرفة التجارية فى أسيوط، ومول حفائر أحمد باشا كمال، عالم المصريات المصرى، الذى أقنعه بأن يتنازل عن نصيبه فى قسمة ناتج الحفر الأثرى لإقامة أول متحف إقليمى فى مصر، فوافق سيد خشبة وخصص له بيتا، وقام أحمد كمال بتصنيف القطع وترتيب عرضها وما زالت بقايا هذا المتحف موجودة فى مدرسة السلام بأسيوط.
لقد جاء "كتاب مدينة أسيوط.. بحث فى بيئتها بين الماضى والحاضر" فى طبعته ضمن سلسلة ذاكرة الوطن من الهيئة العامة لقصور الثقافة، والذى أعاد نشره المثقف الأسيوطى الراحل الأستاذ سعد عبدالرحمن، ليكشف لنا عن مؤَلَّف تمت كتابته فى مارس 1940 على يد الأستاذ عثمان فيض الله، مدرس المواد الاجتماعية بمدرسة أسيوط الثانوية الأميرية للبنات، وقد مثّل ثمرة تفاعل إيجابى نفتقدها فى وقتنا الحالى بين مدرس كفء ومرحلة من مراحل التعليم فى مصر، وهو أول كتاب عن أسيوط فى العصر الحديث، بل إنه أول وأوفى كتاب ولم يكتب حتى الآن عن أسيوط مثله فى حسن إحاطته.
ومن الناحية التاريخية، قد لنا المؤلف سجلاً موجزًا وافيًا بتاريخ أسيوط بدءًا من حضارة ما قبل الأسرات أو ما يسمى لدى البعض "بحضارة البدارى"، ثم أسيوط فى الدولة المصرية القديمة وعهد الإقطاع ثم الدولة الوسطى والمعلومات القيمة عن أمراء أسيوط فى عهد الإقطاع والفترة اللاحقة على عهد الإقطاع، وحقبة الملوك الرعاة أو الهكسوس، ثم أسيوط أيام الدولة الحديثة ونهاية عصر الأسرات، وأسيوط إبان الغزو الفارسى وفى أثناء الحكم الإغريقى ومن بعهدهم الرومان حتى وصل إلى أسيوط القبطية.
انتقل بعد ذلك إلى أسيوط فى العصر الوسيط بعد الفتح العربى الإسلامى ثم دخول العثمانيين. وقد عرفنا المؤلف فى إيجاز شديد ببعض العلماء من أبناء أسيوط مثل جلال الدين السيوطى وابن الصلاحي، ثم انتقل للحديث عن أسيوط فى العصر الحديث من عام 1800 حتى تاريخ تأليف الكتاب عام 1940، وتعرض خلال هذه الفترة للغزو الفرنسى واحتلال الفرنسيين لأسيوط وموقعة بنى عدى وأسر الفرنسيين لبعض أعيان أسيوط وظهور الطاعون عام 1800، ثم عهد محمد على وبداية ازدهار المدينة، وصولاً إلى عصر إسماعيل الذى تطورت فيه أسيوط إداريًا وازدادت أهميتها مع امتداد السكة الحديدية إليها، وحفر الترعة الإبراهيمية، ثم عهدى توفيق وعباس حلمى الثاني، ثم السلطان حسين والذى بدأت معه تظهر ملامح أسيوط الجديدة المتمثلة فى الأحياء المعروفة بالشركات، وأنهى المؤلف هذا القسم بالحديث عن أسيوط خلال عهد الملك فؤاد والإشارة إلى ثورة 1919 ومظاهرها بأسيوط، وأخيرًا عهد الملك فاروق الذى لم يكن قد مر على اعتلائه عرش البلاد آنذاك سوى 3 سنوات.
من الناحية التخطيطية رسم المؤلف صورة واضحة لمعالم مدينة أسيوط مستعينًا بالخطط التوفيقية، وقام بتعريفنا بأسماء أهم الشوارع مثل شارع الخديوى إسماعيل (يمتد من مبنى المحطة حتى مسجد المجذوب، ويطلق عليه حاليًا شارع 23 يوليو)، وشارع السلطان حسين (يمتد من نفق السكة الحديدية حتى قناطر الترعة الإبراهيمية، وهو واسمه الآن شارع 26 يوليو)، وشارع الملك فؤاد (كورنيش النيل حاليًا)، وشارع الملك فاروق (فاروق حاليًا)، وشارع عدلى يكن وشارع شكري، وشارع وابور النور، وشارع المجاهدين.
ومن الناحية الاقتصادية، تناول الكتاب الزراعة عن رى الحياض وأهم حوضين زراعيين حول أسيوط وهما حوض الزنار وحوض الملاح، كما تحدث عن المصارف والترع. أما الصناعة فقد قام الكتاب بتعريفنا بأهم الصناعات الأسيوطية كالتطعيم بسن الفيل (العاج) والأبنوس وقرن الخرتيت والأثاث والسجاد والمصنوعات الجلدية، والأسمنت والبلاط وصناعة الملوحة وحلج ونسج الأقطان والزيوت.
ورسم لنا صورة لحياة أهالى أسيوط فى القرن الـ19، فوصف البيت الأسيوطى الرحب المتسع ذو الفناء الكبير من الداخل؛ حيث يستقبل الضيوف فى القاعة وتخزن الحبوب فى الحاصل، والفرن البلدى والطاحون الصغير الذى كان يدار بالدواب، كذلك ملابس السيدات، فسيدات الطبقة الراقية كن يلبسن "الحبرة والبرقع الأبيض" أما نساء العامة فكن يلبسن "الشقة"، كذلك اهتمام أهل أسيوط بإحياء المواسم والأعياد وليالى رمضان، ونظام الأسرة الأفراح وحفلات العرس ومغالاة أهل أسيوط فى المهور، كذلك الجنائز والتى تقام لثلاث ليال بعد الدفن وغيرها من العادات والتقاليد الخاصة بالمجتمع الأسيوطي.
وقد تطورت الأوضاع الثقافية والتعليمية خلال القرن العشرين كثيرًا بسبب اتساع دائرة الثقافة الحديثة وانتشار التعليم وزيادة الاهتمام بتعليم الفتاة، كما تطورت الجوانب الرياضية خاصة بعد نشأة نادى أمير الصعيد (البلدية حاليًا) ونادى أسيوط (مقر الحزب الوطنى سابقا)، ونادى السباق ونادى النيل.
محافظة أسيوط حاليًا تتكون من 11 مركزا (ديروط، القوصية، أبنوب، منفلوط، أسيوط، الفتح، أبو تيج، الغنايم، ساحل سليم، البداري، صدفا، الوليديه)، 11 مدينة، حيين، و52 وحدة محلية قروية تضم 235 قرية و971 عزبة ونجع.
يبقى لنا أن نشير مجددا أن كتاب مدينة أسيوط يعتبر أوفى وأول سجل عن أسيوط سياسيًا واجتماعيًا وعمرانيًا وثقافيًا واقتصاديًا... ونتمنى تكرار التجربة.
أسيوط لديها فرص واعده كمدينة، فلديها ظهير صحراوى واعد لامتداد عمرانى لمشروعات صناعية وزراعية، كما أن المحافظة لديها فرص واعدة لمشروعات سياحية، وللأمانة فجامعة أسيوط جامعة متماسكة إلى الآن خاصة كليات الطب والعلوم والهندسة، كما أن العديد من أساتذة الجامعة مشهود لهم بالكفاءة دوليا، لذا علينا أن نعهد لجامعة أسيوط بوضع مشروع متكامل لتنمية أسيوط خلال الخمسين عاما القادمة، فاستشراف مستقبل أسيوط يبدأ من أسيوط وليس من القاهرة، فأهالى أسيوط فى النصف الأول من القرن العشرين هم من أنشأوا المدارس وأدخلوا الكهرباء وأقاموا المستشفى، فقد كانوا كرماء مع مدينتهم، ولذا فإن هجرة الأسيوطى من أسيوط تجيء تحت ضغط ضعف سوق العمل، وندرة الفرص، فى الوقت الذى يطرح طلاب جامعة أسيوط فى مشاريع تخرجهم أفكارا تتخطى حدود الخيال، فهى أفكار خلاقة تستحق التأمل والتفكير، فضلا عن أن الظهير الصحرواى للمحافظة قابل للزراعة، ووسائل الرى الحديثة كفيلة بذلك مع الطاقة الشمسية، لكن الأهم أن تكون الأرض لأهل أسيوط ليزرعوها بقلوبهم وتروى بدمائهم، وتنهض بعرقهم.