لم يكن قرارًا مُوفّقًا على الإطلاق من وزارة السياحة والآثار؛ ولعلّه اقتراح من مُحامٍ فى الإدارة القانونية، توهَّم للحظةٍ واحدة أنه يستدركُ على الجميع خطيئةً كُبرى. ورغم التصويب السريع؛ فالموقف صالحٌ لإثارة أسئلة عِدَّة مُتشابكة، وأكثر أهميّةً من الواقعة المُباشرة لشابٍ تجاوز القوانين وأُسِيئ التعامُل معه.
إنها من نوعية الحوادث المفصليَّة التى تجلى الغبار عن واقعٍ مُركَّب، ودراما تعقَّدت إلى أن تجاوزت إمكانات الضبط والمُعالجة بالأُطر والمهارات التقليدية، وباتت تحتاج إلى مُقاربةٍ أكثر ديناميكية وكفاءة، وأقدر على استيعاب التحوُّلات أوّلاً، ثمّ التعاطى معها بما يُناسب السياق المُستجَدّ فى كلِّ عناصره من دون استثناء.
تبدَّلت صِيَغُ العمل الإعلامىِّ المُعتادة لسنواتٍ أو عقود، وانفكَّت قبضةُ الدولة ومُؤسَّساتها فيما يخصُّ ضبطَ المجال العام والتحكُّم فى رسائله.
أحدثت المنصَّاتُ الاجتماعية الرقميّة تغيُّراتٍ عميقةً فى بيئة الاتصال الجماهيرى، لم نستوعبها بعد على الوجه الأمثل للأسف، فيما تُداهمُنا مُستحدَثاتٌ أكبر مع تقنيّات الذكاء الاصطناعى.
وذلك، وسط فراغ تشريعىٍّ لا يُنظِّمُ كثيرًا من التحديات الجديدة، وقصورٍ تنفيذىٍّ لا يُمكن إنكاره على الإطلاق، لجهة الوعى والإحاطة وسرعة الاستجابة للمُتطلّبات الطارئة.
وكلّها تتطلَّبُ عقلاً ابتكاريًّا، يمزجُ بين فلسفة الماضى وأدوات الحاضر والمستقبل، ويُعيد تعريف الحقائق التى استقرَّت زمنًا، بما يُلائمُ أزمنةً لا عنوانَ لها إلَّا السيولة المُفرطة.
والقصة التى صارت معروفةً للجميع باختصار، أنَّ شابًا صغيرًا يعمل فى حقل الذكاءات الرقمية الجديدة، أعدّ مقطعَ فيديو مُخلَّقًا بتلك الأدوات، يُروِّجُ لافتتاح المتحف المصرى الكبير، مُستعينًا بوجوهٍ محلية ودولية مرموقة، فى مقدمتها اللاعب المصرى محمد صلاح والنجم الأرجنتينى ليونيل ميسى.
وهو ما رأى موظّفو الجهاز التنفيذى فيه افتئاتًا على الملكية الفكرية والحقوق التجارية، وربما افترضوا أنه قد يُحمِّل جهةَ الإدارة أعباء قانونيّةً ومالية، إزاء المشمولين بالمادة المشار إليها دون موافقةٍ أو استئذان، فضلاً على التجاوز الصريح على ما يخصُّ ترتيبات الاحتفالية وولاية الجهة المُنظِّمة عليها، وكلُّها نقاطٌ جديرةٌ بالنظر قَطعًا؛ إنما ليس من الزاوية التى تطلَّعت منها وزارة الآثار ورجالها، أو بالطريقة الإجرائية التى أفضت إلى لَغَطٍ ومُؤاخَذاتٍ أكبر.
ولستُ مَعنيًّا فى الحقيقة بالشاب المُتورِّط فى الواقعة على التحديد، وما إذا كان بريئًا فى نواياه أم يسعى لاستثمار الحدث لأغراضٍ تجارية، لا سيما أنه؛ بحسب المُتردِّد عنه، يُؤسِّسُ شركةً ناشئة فى حقل المنتجات الرقمية، وربما لديه خدمات يُسوّقها للراغبين فيها، ما يضعُ عملَه الدعائىَّ للمتحف تحت احتماليّة الترويج الشخصى، والإعلان عن مُنتجه الخاص من جهة المشروع القومى وانطلاقته المُنتَظَرة محليًّا وعالميًّا.
إنما ما يعنينى فى المقام الأوَّل، ذلك الفراغ العريض بين الحدث العام والجمهور، وغياب الأُطر الناظمة، بما يسمح لفردٍ بالتحرُّك بأريحيّة، ودون درايةٍ أو بَيّنة، ثم يدفعُ جهةً رسمية لاختصامه قانونيًّا، قبل أن تتنازل عن الخصومة وتتسبَّب فى جدالٍ أكبر، بشأن الأزمة ومُكوِّناتها، ولماذا اندلعت أو خَبَت، وأىّ المَوقِفَين كان أكثر صوابًا: الادعاء والتنازل، وعمل الشاب أو الاعتذار عنه.
والحال؛ أننا ما نزالُ نُثير الأسئلةَ القديمة فى نطاقٍ مُستَجَدٍّ تمامًا، فلم تعُد المُنطلقات المُعتادة صالحةً للاشتباك معه، ولا هو قابلٌ للضبط والتنظيم بالقواعد التى ألفناها.
صحيح أنَّ القانون يظلُّ حَكَمًا على الجميع؛ لكنه إن تقدَّم على الواقع أو تأخَّر عنه قد يفقِدُ فاعليّته، ويصيرُ عبئًا لا ضابطًا، ومُعطِّلاً لا مُعينًا على تسيير الأمور والعلاقات فى مسارات واضحة.
وحتى مع افتراض أنَّ البيئة التشريعية مثاليّة تمامًا، مُحدَّثة ومُؤهَّلة لأنماط المشكلات الطارئة عن الوَفرة وتعقُّد منظومة العلاقات بين مُنتجِى المحتوى ومُستهلكيه والمَعنيِّين به؛ فإن عدم وضوح الرؤية لا يقلُّ أثرًا عن غياب القاعدة، والتنازُع وشيوع المسؤوليات دون تحديدٍ يزيدان الحالة غموضًا والتباسًا، ويفرضان البحث عن الثغرات وسَدِّها بالوسائل الصحيحة؛ لأنَّ الردع الاستباقىَّ هو ما يحمى سُلطةَ الرقابة والمساءلة من فَيض الانفلات المُعجِز، ويضمن استقرار القواعد واطِّرادها بمعياريّةٍ واضحة ومُثمرة.
ما فعله الشابُ ليس صحيحًا فى المُطلَق، ولا بحسب المُستقرِّ من الأُطر القانونية القائمة، وكذلك ما فعله المسؤولون فى وزارة السياحة والآثار أيضًا.
لكنَّ المسألة هُنا أكبرُ وأعقد من اشتباك الطرفين وحدهما، وتنفتحُ على دائرةٍ واسعة من الجهات والأفكار ومُحدِّدات النظر للصَّنعة الإعلامية، بعدما خرجت من قُمقم الاحتكار وتأطير الرسائل وهيمنة "حُرَّاس البوَّابات" عليها، إلى المشاعية وديمقراطية العرض والتلقِّى؛ لتتأخَّر المُؤسَّسات التقليدية كثيرًا فى السباق الهائج، وتعجز المرافقُ المَعنيَّةُ بالتنظيم عن فرض ولايتها على الفضاء العام بالتساوى.
أوَّلاً؛ لأن الفعاليات الفردية والجماعية الناشئة خارج القوانين المُعتادة تُسَيّل بيئة العمل، وتُخرجها من إطار النمذجة المعروف، ثمَّ لا تكون للرقيب ولاية على الهامش الآخذ فى التوسُّع، ما يزيدُ حالةَ التحلُّل من الضوابط على مستوى آحاد المُمارسين لأعمالٍ لها صِفَة إعلامية، ويُحفِّزُ الأبنية المُنظَّمَة على مجاراتها، فتسقط الحدود بين الملتزم والمنفلت، وترتخى قبضةُ الرقابة والقانون عن الاثنين معًا، أو كلَّما ضربَتْ فى ناحيةٍ تفتح ثغرةً للثانية كى تُواصِلَ تحلُّلَها، بدلاً من ردعها أو إعادتها إلى النطاق المحكوم بالضوابط والأعراف.
وحتى لا يكون الكلام نظريًّا؛ فالنموذج الأوضح ينتشر من دون حدودٍ على مواقع التواصل الاجتماعى، وسط غابة من المحتوى المنزلىِّ ومُنتجيه الأفراد، ومن المُعالجات المُتحلِّلة من كلِّ قيمةٍ أو ضابطٍ معرفىٍّ وأخلاقىٍّ وقانونى، ومع أثر الانتشار والذيوع وتراكُم العوائد المغرية، لا يلتحق وافدون جُدد بتلك البيئة السائلة فحسب؛ بل تنتقلُ مُؤسَّساتٌ نظامية صغيرة أو كبيرة للمُنافسة تحت السقف الجديد.
وفيما تتجاوز أدوارَها المُؤطَّرَة بحدودٍ قانونية واضحة؛ فإنها تنقل للأفراد الذين قادوها لهذا بالأساس، شعورًا بأنهم على الطريق الصحيح، ولا يرتكبون أخطاء أو تجاوزاتٍ تتنافى مع قواعد العمل فى الفضاء الاجتماعى، أو تضعُهم بمُنتجاتهم الفجَّة تحت طائلة المُساءلة.
إنَّ ثقافة الملكية الفكرية غير مُتجذِّرة أو شائعة بين المصريين من الأساس، وتُنتَهَكُ يوميًّا عبر منافذ ومنصَّاتٍ لها شخصيَّةٌ اعتبارية واضحة، وتَسهُل مُساءلتُها ورَدعُها وتقويمها بالإلزام أو العقاب.
وعليه؛ فلن يكون غريبًا أن يحدُثَ الانتهاك من فردٍ أو مجموعة، يعملون أصلاً خارج كلِّ الأُطر التنظيمية على إطلاقها، فلا تُطلَبُ منهم تراخيص أو إجراءات، ولا يُسجِّلون أنفسَهم فى دفاتر أو قواعد بيانات، كما أنهم يَسطُون طوالَ الوقت على محتويات الكُتب والدراما ووسائل الإعلام العامة والخاصة لإنتاج محتواهم، وتحقيق منافع مادية ومعنوية لا حصرَ لها من وراء هذا الاستغلال غير المُرخَّص.
فضلاً على ما يُحدثه كثيرون بينهم من إرباكٍ وفوضى؛ بأثر الاستسهال وعدم تدقيق المعلومات، أو التجرّؤ على الحدود الدنيا لجودة وانضباط الرسائل والمواد المعروضة عَرضًا جماهيريًّا، لأغراض اتّصاليّةٍ أو تجارية، بينما لا يُسمَعُ أىُّ صوتٍ من الجهات المَعنيّة بحثًا عن التقنين، وإخراج تلك المنابر من أهوائها الفردية إلى التزاماتها الطبيعية تجاه الجمهور وأنشطة الاتصال الجماهيرى.
لقد ظلَّ تطبيقٌ مثل "تيك توك" مساحةً عريضة من السيولة والانفلات، أقلّه منذ جائحة كورونا وما فرضته من حظرٍ وتقييدٍ اجتماعى قبل خمس سنوات.
وفى هذا المناخ، راجت حساباتٌ وحقَّقت دَفقًا ماليًّا ضخمًا، ولم تُساءَل عن المحتوى والعوائد إلَّا مُؤخّرًا، وعلى نطاقٍ ضيِّق للغاية، وبعدما وصل الأمرُ إلى مستويات مُشينة من الابتذال وتسليع الجسد ومُغازلة الغرائز.
وما حدث فى فيديو المتحف شبيهٌ بوقائع التيكتوكرز، من زاوية الذيوع؛ إذ لم يُؤاخَذ الشابُّ المذكور عن المادّة نفسِها؛ بل عَمّا حققته من انتشارٍ ومُعدَّلات تداولٍ عالية؛ بالضبط كما جرى توقيفُ مشاهير المحتوى الشائن، فيما لا يزال آلافٌ غيرهم يُنتجون موادَّ مُتطابقةً، ويعملون بنفس الآلية المُستهجَنَة.
وذلك رغم أن المخالفة؛ إن كانت مُخالفةً فعلاً، تتحقَّقُ بمُجرَّد إذاعتها على منصَّةٍ جماهيرية؛ ولو لم يتحقَّق لها الذيوع.
والحقُّ؛ أننا لا نفتقد لجهاتِ الرقابة والتنظيم على الإطلاق، بل على العكس، قد تكون لدينا وفرةٌ منها إلى درجة التُّخمة.
ومع التعدُّد، تضيع المسؤوليات ويتفرَّق دمُها بين المُؤسَّسات، إمَّا لافتراض كلٍّ منها أنَّ التَّبِعَة تقعُ على عاتق جهةٍ غيرها، أو لغياب التعريف الدقيق وتحديد المهام على وجهٍ واضح، بجانب ما يعتور القوانين من ثغراتٍ أو تفريعاتٍ تُقوِّضها وتُعطّل عملها، وتضربُ كلَّ نصٍ منها بغابةٍ مُضادَّةٍ ومُتضاربة من نصوصٍ أُخرى.
أو لأننا نتأخَّر كثيرًا عن مُجاراة الواقع بمُتطلّباته الناشئة، وتكييف الإجراءات العملية المطلوبة وفقَ الصِّيَغ التشريعية القائمة، أو إعادة تأهيل التشريعات بحسب الحاجات الظرفية الطارئة.
ولِنَتَذكَّر دَومًا أننا نتحدَّثُ كثيرًا عن الذكاء الاصطناعى منذ شهور، ولا تصوُّرَ لدينا بشأن الدخول فيه أو الخروج من مَزالقه وتلافِى آثاره السلبيَّة المُتوقَّعة، بينما تصدّت أوروبا مثلاً للامتحان قبل سنوات، ولا تتوقَّف عن المُداولة فيما يحتاجُ للضبط وإعادة التحرير من قوانينها وآليَّاتها النظامية المُعتَبَرة.
نهضت مُؤسَّساتُ الإعلام فى الولايات المُتَّحدة دفاعًا عن حقوقها، وثارت ثائرةُ الكُتَّاب والناشرين؛ لأنَّ القضاء الأمريكى أجاز تدريب النماذج اللغوية الكبيرة على الكُتب والمطبوعات، واعتبر الخطوة لا تُشكِّلُ خرقًا أو مساسًا بحقوق الملكية، بموجب سياسة الاستخدام العادل؛ ولأنها لا تُعيد استغلال المحتوى نفسِه أو الاقتباس منه، بل تُنتجُه فى صورةٍ جديدة مُغايرة تمامًا.
وبعيدًا عن صحَّة التصوُّر من عدمها؛ فإننا ما نزال بَعيدِين تمامًا من تلك الجدليَّة المُهمّة، وربما يراها البعضُ رفاهيةً لا تستوجِبُ الاهتمام أو العمل عليها ضَبطًا وتنظيمًا، بينما بدأت المقالات والمواد المُنتَجَة بتلك الأدوات الرقمية تغزو المنصَّات والصحف، لتخدع القُرّاء دون إشارةٍ واضحة لمنشأها، وتُعيد ترتيب المراكز المادية والمعنوية للمُحرِّرين على خلاف الحقيقة والإمكانات الذاتية، وربما تفتحُ البابَ لاحقًا للتخلُّص منهم أصلاً؛ طالما أنهم وسيطٌ بين المنصّة والبرنامج، فقد لا يتطلَّبُ الأمر أكثر من كادرٍ فنىٍّ يُحسِنُ توليدَ الأوامر النصّية، وينوب عن عشرين أو مائة فردٍ، سلَّموا عقولَهم مُبكِّرًا للتطبيقات التى تسطو على عقول الآخرين، وتُغذِّيهم بمحصولها دون جهدٍ منهم أو استحقاق.
وبالعودة لمسألة فيديو المتحف؛ فقد وجد الشابُّ نفسَه فجأةً تحت طائلة المُساءَلة، واعتذر عن جهله بالحدود القانونية بين الاستخدام العادل وانتهاك الملكية الفكرية.
والحمد لله أنَّ العقلاء تدخّلوا وأنهوا الأزمة فى بدايتها؛ لكنَّ اجتياز الموقف لا ينبغى أن يصرِفَنا عن استقراء دروسه واستيعابها، فى الذكاء الاصطناعى والغباء الطبيعى، وفى كلِّ ما يتَّصل بمهامّ الاتصال الجماهيرى الآخذ فى الانقلاب على ماضيه الطويل، وتخليق مساقاتٍ وآليّات إنتاجٍ وتداوُلٍ لم نعهدها أو نتحضَّر لها.
وسواء شئنا أمْ أَبَينا؛ فإنها تنعكس على المجال العام ومُؤسَّساته الناظمة، وتخلِطُ أوراقَ السياسة بالاجتماع والقانون وكفاءة العمل الإعلامىِّ ومُخرجاته، كما تُؤثِّرُ على فاعليَّة الجهات المَعنيّة تقليديًّا بمُخاطبة الشارع، وتنهى زمنَ الهيمنة الكاملة على العملية الاتصالية إلى الأبد.
كان الاشتباكُ سيِّئًا للغاية فى توقيته، ولا يتبقَّى أكثر من عشرة أسابيع على موعد افتتاح المتحف الكبير، وآخر ما نحتاجه فى التسويق للحدث المُهمِّ وطنيًّا وثقافيًّا وللداخل والخارج، أن نُرفِقَه بعَبثٍ إجرائىٍّ أو استسهالٍ فى استخدام حقِّ التقاضِى.
وليس القَصدُ مُطلَقًا أنَّ الشاب لم يُخطئ؛ إنما لم نكُن نَعدَم الوسائل البديلة للتفاعُل مع الخطأ وتصويبه، دون إزعاجٍ شعبىٍّ أو تغذيةٍ لقُطعان السوشيال ميديا الهائجة.
كما أنَّ المُحتوى المُنتَج، بما فيه من انتهاكٍ، يخصُّ صاحبَه وناشرَه حصرًا، وتقعُ عليه وحده كلُّ الالتزامات الخاصة بحقوق الأداء، واستغلال الشخصيات المُستخدَمَة باعتبارها علامات تجارية مَحميّة، أمَّا النَّفع العام فيعود على الحدث الوطنى المُرَاد تسويقه، ولا يُمكن أنْ يكون التعاطِى مع الرموز الثقافية للدولة وأُصولها المادية كما تتعامَلُ الشركاتُ مع مُنتجاتها، لا سيما أنَّ كثيرًا من تلك الحقوق مُنتهكَة فى الخارج، وتتربَّحُ منها دُوَلٌ ومُؤسَّسات اقتصادية، ولم نسدّ ثغرة الانتحال، أو نستوفى حقوقَنا الضائعة منها حتى الآن.
وإذا كان ضروريًّا أن تحضُر المواءمةُ دومًا فى أىِّ عملٍ سياسىٍّ، أو من جهةِ سُلطةٍ سياسية أو تنفيذية؛ فليس القَصدُ أبدًا أن نُقِرّ التفريط أو نصمُتَ على الخطأ؛ إنما من الواجب أيضًا ألَّا نستمرئ الإفراط أو نندفع إليه دون حسابات عاقلة.
وهذا مِمَّا ينطبقُ على الأفراد كما على المُؤسَّسات، خصوصًا أنَّ بعض الخطابات ذهبت إلى تحميل الجهات المَعنيّة بالحدث أو بالإعلام عمومًا مسؤوليَّةَ العشوائية الإدارية، وأناطت بها ما لم يضَعْه القانونُ فى عنقها، فيما يُشبه الاستسهال أو الصيد فى الماء العكر للأسف، وكأنه مَوسمٌ لاصطناع البطولات الوهمية، أو تطيير السهام النارية فى كلِّ الاتجاهات.
وبقَدر ما تنصرف الأذهان مُباشرةً إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على سبيل المثال؛ فالواقع أنه مَعنىٌّ بجزء من الواقعة، وليس طرفًا على الإطلاق فى بقيّة الأجزاء.
والنزاع بحسب المطروح يدور فى نطاق الملكية الفكرية، ولدينا جهازٌ خاص بها أُقِرَّ قانونُه قبل سنتين، وصدَّق عليه الرئيسُ ونشرته الجريدةُ الرسمية ليدخل حيز النفاذ.
وانطلاقا من نصوص القانون رقم 163 لسنة 2023؛ فإنه مَنوطٌ به إعداد وتحديث الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، ووضع الإجراءات التنفيذية ومتابعتها مع الجهات والوزارات، وتسجيل ومَنح شهادات الملكية، وإنشاء مكاتب أو نقاط دعم فى المُؤسَّسات المَعنيَّة، بجانب التوعية والتثقيف وفحص الشكاوى والمنازعات الواردة إليه أو المرصودة من جانبه.
لكنَّ الملاحظة الأهمّ؛ أنَّ القانون المُنظِّم للملكيَّة وحقوقها لم يُحدَّث منذ ثلاثٍ وعشرين سنة، وقبل أن يطرأ "فيس بوك" وأقرانه من المنصات الاجتماعية، وليست تقنيات الذكاء الاصطناعى الخيالية فحسب.
قبل ستة أشهر نشر الجهاز إعلانًا فى الصحف، ينقل لنفسه تبعية المكاتب المعنية بالملكية الفكرية، تنفيذًا لنصوص قانونه المشار إليه.
وبناء على ذلك؛ أُلحِقَت به تلك المكاتب، ونُقِلَت إلى مقرِّه فى شارع قصر العينى، وتشمل: مكتب براءات الاختراع بأكاديمية البحث العلمى، مكتب العلامات التجارية والنماذج الصناعية بجهاز تنمية التجارة الداخلية، مكتب حماية الأصناف النباتية بوزارة الزراعة، مكتب حماية برامج الحاسب الآلى وقواعد البيانات بهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات، إدارات حقوق المؤلف بوزارة الزراعة ممثلة فى ثلاث إدارات تتبع المجلس الأعلى للثقافة وقطاع الفنون التشكيلية وقطاع شؤون الإنتاج الثقافي.
وأخيرَا، والأهم الذى يعنينا فى هذا المقام، مكتب حماية البثّ والمُصنَّفات السمعية والبصرية التابع للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
والمجلس بحسب قانونه جهة تنظيم وترخيص؛ لكنه ليس رقيبًا، انطلاقًا من حقيقة أن المطبوعات والنوافذ الإعلامية غير خاضعة للرقابة الاستباقية.
إنما لا يعفيه ذلك طبعًا من واجب المتابعة والفحص والتصدِّى للخروقات، ولديه لجان وفعاليات مَعنيّة بتلك المهام اليومية، لكنه على ما يبدو يكتفى بالتجاوزات الفجّة، أو بالشكاوى الواردة إليه.
ومن دون شَكٍّ؛ يحتاج المجلس إلى تفعيل أدواره بدرجةٍ أكبر، وتعويض محدودية عدد أعضائه وتفاوت قدراتهم، من خلال لجانٍ فنيّة نوعيّة على درجةٍ عالية من الدُّربة والكفاءة.
وليس مقصودًا من ذلك واقعة فيديو المتحف أو قضايا الملكية الفكرية التى لها جهاز خاص، بل كلّ ما يتَّصل بالعمل الإعلامى فى صوره ومساقاته المتنوعة، تقليدية ورقمية واجتماعية. خصوصا أن الشائعات والتضليل المعرفى وتزييف التاريخ وحقائقه، لا تقل خطرًا عن إزعاج قيم الأسرة المصرية بمعناها الغامض الفضفاض، أو عن شبهات غسل الأموال التى تُحوّم حول آلاف من صناع المحتوى، بجانب ما تقترفه المواقع الإخبارية الصغيرة من تجاوزات يندى لها الجبين.
الملكية الفكرية يتيمة فى مجتمعنا، هكذا من دون تجميل أو مواءمات. يُنتحل المحتوى من أصحابه، وتُسرَق الأعمال الفنية والإبداعية علنا، ولا حصر لعدد القنوات الفضائية التى تسطو على تراث السينما والدراما دون رادع، صحيح أنها تبث عبر أقمار اصطناعية أجنبية، لكن كثيرا منها يخرج من شقق وجراجات فى أحياء مصر.
ملايين الأفراد يستحلون الصور والنصوص عامة كانت أم خاصة، ولا يعرفون شيئا عن الملكية وحقوق الأداء، أو سياسات الاستخدام العادل، ويبتذلون القيم والأعراف والقوانين عبر آلاف الجيجاوات يوميا من المحتوى، وهو ما يتطلب جهدا نوعيا يستجيب لأزمات الماضى التى ما نزال نحياها؛ لأن مستحدثات الحاضر والمستقبل ستكون أكثر إرباكا وخرقا لما نعرفه وما لا نعرفه من ضوابط وإجراءات.
والحال؛ أن الملكية الفكرية جزء من كل، والشائعات والابتذال وغسل الأموال وغيرها، وكلها فى حاجة إلى نظرة شمولية أكثر اشتباكا بالواقع المعقد وتفاعلا معه.
نحتاج لإلزام مُمتهنى الإعلام أولا بقواعد المهنة وأكوادها الراسخة قانونا، وإلى تنظيم غابة المنصات الاجتماعية وفق آلية نظامية مستدامة، تكون قادرة على المتابعة والضبط أولا بأول، وليس فى استفاقات موسمية عابرة، وكلما طرأ موضوع رائج أو تفجرت فضيحة بعينها.
والمدخل لهذا عبر رؤية تشريعية شاملة، تُعيد تأهيل الجهات المعنية بالإعلام بكل أشكاله، وضبط النقابات ومنحها أدوارا رقابية على أعضائها، وتسجيل صناع المحتوى ومنحهم تراخيص وفق مسارات وموضوعات تتصل بمؤهلاتهم وإمكاناتهم، أو بعد إخضاعهم لدورات تأهيل وقياس مهارات، واستيفاء الحقوق الضريبية عن العوائد المتحققة من أنشطتهم، مع وضع آليات عقابية متدرجة بدءا من الغرامات المالية وحتى التعليق المؤقت أو الدائم.
وذلك بجانب خوض المعركة المؤجلة دون منطق مع شركات التقنية المشغلة للمنصات الاجتماعية، فيما يخص الالتزام بالقوانين المحلية الناظمة للاتصال والمحتوى، وسداد النسب الضريبية المقررة عن أرباحها، وتعويض أقنية الإعلام التقليدية عن استغلال منتوجها، أو عن الضرر الواقع عليها جرّاء المنافسة غير العادلة.
واقعة فيديو المتحف عَرَض لمرض، وكذلك وقائع التيكتوكرز القريبة، وغيرهما من جدليات المنصات الاجتماعية المتوالية على فواصل متقطعة متقاربة وآخذة فى الانضغاط.. بدأ الإعلام مشاعيا ثم أُخضِع للتنظيم، ويعود لدينا إلى دورة شبيهة ببدايته البدائية، ويجب ألا نظلّ فيها طويلاً، وألا نتهاون فى موجبات التصدّى للمُلمِّات المُطوّقة لنا من كل اتّجاه؛ لأن الأسوأ للأسف لم يأت بعد.