حازم حسين

صُنّاع الطوفان وراكبوه وتُجّاره أيضا.. أغبياء وانتهازيون من كل لون ويأكلون فى طبق واحد

الخميس، 31 يوليو 2025 02:00 م


كانت المشكلة لعقود طويلة؛ أن الزمن يروح ويجىء على القضية الفلسطينية وهى على حالها، لا تتقدم للأمام أو لا تتحرك من الأساس. أما اليوم فقد صار بؤس الماضى حلما بعيد المنال؛ إذ تحرّكت بالفعل بعد ثبات طويل؛ إنما للخلف غالبا، وللأسوأ قطعا بغض النظر عن الاتجاه.

وما يزيد الأوضاع فداحة أن اللاعبين بمفاتيحها لا يعون ما آلت إليه حاليا، ويُكابرون فى الاعتراف به؛ ومن ثم يسيرون بها من ارتباك لانحدار، ومن الاستغلال للانحلال، فيما تتفكك السردية وينطفئ بريقها مع كل مقامرة أو نزوة غير محسوبة.

تميزت المسألة على طول عمرها بأنها كانت إجماعية، ومحل اتفاق من كل التيارات فى الحدود الدنيا على الأقل. لكن فكرة التلاقى ذاتها على تصور واحد ما عادت متحققة فى المحيط الإقليمى الواسع، ولا حتى بين قوى الداخل ومكوناته.

والباعث أن المنطقة انتقلت أيديولوجيا فى حقب متضادة ومتلاحقة، وخلّفت فلسطين التاريخية وراءها دون اشتغال حقيقى على التوحيد؛ بل على العكس تعاظمت الرغبة فى الاستتباع وتوظيف أصول القضية لخدمة صراعات الخارج، بدلا من أن يضطلع هو بمهمة إسناد المشروع التحررى وإغنائه بالقوة الذاتية، مع إعفائه من تبعات التنازع واختصام العواصم والأجندات مع بعضها.

وبقدر الانتهازية التى تسلّطت على بعض الحكومات والأنظمة فى مقاربة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، كانت الفصائل مستعدة ومرحبة بالانخراط فى لعبة المحاور والأحلاف، ربما للتعويض عن هشاشتها فيما بينها وأمام الاحتلال، عبر الرهان على أطراف أقوى وأكثر اتصالا بتوازنات المنطقة.

ومن هنا صارت فلسطين مرآة للواقع العربى، وانعكاسا لصورته المتداعية بأثر الضربات الثقيلة والمتتابعة: فوران الاستقلال والبحث عن الهويات وتمايزها، ثم بروز النزعة القومية وخفوتها، وصولا إلى الانتقال من سباقات المكانة إلى مماحكات المكان.

كان الاشتباك قديما على الرمزية والقيمة المعنوية؛ فاتصلت الجغرافيا حلبة واحدة وسيعة للتنافس، أما الآن فقد تسيّدت فكرة الدولة الوطنية على ما عداها من بدائل واقتراحات سابقة، فسُيّجت الحدود فيما بينها بحسابات السياسة والاقتصاد، وسقطت الكعكة الفلسطينية بالتبعية عن الطاولة، أو بالأحرى من اهتمامات أغلب المتحلقين حولها.

ولمزيد من الإيضاح؛ فقد كانت الحاجة للقضية وفائضها التعبوى عالية جدا، عندما كان سعى القوى الإقليمية الفاعلة إلى قيادة المنطقة بنكهة قومية وظلال امبراطورية، لكن القيادة أُعيد تكييفها على صورة المركز الصلب بين أطراف هشة ومأزومة، ولم يعد ينتقص من مكانة المتصدرين للزعامة بالوفرة الاقتصادية أو المشروعية التنموية، أن قطعة غالية من الجغرافيا تخرج من أيديهم، أو سردية التمكن والوجاهة والاقتدار تُطعَن مع كل سحق ينزل بالأرض المحتلة، أو يقع على منكوبيها العُزّل. باختصار؛ صارت فلسطين قضية أهلها أولا، أو حصرا، فيما يعيش أصحابها فى توهمات ساذجة عن الزمن القديم.

والسياق الراهن يُختزل بأوضح صورة فى عبارة المفكر الإيطالى أنطونيو جرامشى: «العالم القديم يموت، والجديد يكافح من أجل أن يُولَد؛ إنه وقت الوحوش». وذلك من زاويتين متعانقتين لحد الالتحام الكامل: إعادة النظر فى منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحولها من القطبية الثنائية إلى الهيمنة الأمريكية، وصولا لانتفاضة دول الجنوب وتطلعها لاقتسام موقع الإدارة الكونية.

والصورة نفسها تحدث فى الشرق الأوسط على مقياس يناسب طبيعته القائمة وتوازناته الجيوسياسية، فيما تقوم بعض قواه الكبرى على الأصول الراسخة، وتحفظ الإرث ما استطاعت، ولا تتجاوب بيُسر مع محاولات الزحزحة والتحريف الخشن للمواقع والأفكار على رقعة الشطرنج الملتهبة.
تستوعب القاهرة ما يجرى من حولها، وتتعرض لضغوطه الكاملة قبل غيرها، وبأقسى مما يتعرض له الآخرون جميعا؛ لكنها لا تُسلّم بالسيناريو المُعدّ للمستقبل بمعزل عن منظومة القيم التى دشنتها وتولت رعايتها، وعن الذاكرة الحية وسوابق الخبرات، وعبء الالتزام السياسى والأخلاقى بأن تكون ظهيرا للقضية العادلة، ونقطة ارتكاز وتوازن فى سياق مضطرب ومتداخل.

وعليه؛ فالصراع مركب بين قوى الماضى والحاضر، وفى مستويات متعددة ومتداخلة داخل كل منهما، بحيث نقف إزاء أكثر من ماضٍ على التوازى، وأكثر من حاضر واقتراح للمستقبل أيضا.

ما تزال رواسب الحقبة القومية حاضرة فى خطابات بعض التيارات، من الناصرية إلى بقايا البعث وبعض أطياف اليسار. وإلى جوارهم تحضر تنويعة أصولية عابرة للمذهبية ظاهرا، ومتلاطمة الأمواج فى العمق، وماضيها أبعد كثيرا من نشأة إسرائيل أو سايكس بيكو والانتداب وسقوط الخلافة العثمانية.

ثم إلى الأمام من ذلك خطاب الدولة الوطنية وترتيبات ما بعد حرب أكتوبر وكامب ديفيد، وهى مما يراه البعض ماضيا يتعين تجاوزه أيضا، لكنهم لا يتفقون على نطاق التجاوز وهيئته المتوخاة، ولا وصفة الحاضر المؤهلة للإنفاذ بتوافق واقتناع، بين أطروحات السلام الاقتصادى، والسلام مقابل السلام، وتطلعات نتنياهو لإعادة ترسيم الشرق وإطلاق حقبة من الهيمنة الصهيونية الكاملة.

ماضى القومية يُزايد بالشعارات التى لم تتخلص بعد من فكرة العصابات والكيان الهش وإلقاء إسرائيل فى البحر، وماضى الأصولية يقبض على سردية الوقفية الإسلامية ويُشغّل القضية لصالح الأيديولوجيا، والحاضر المراد تسييده يتراوح بين تمكين إسرائيل مباشرة أو من وراء ستار، أكان عبر اتفاقات تطبيع أو ممرات تجارة، أو بالحضور المادى من جنوب لبنان إلى الشام وصولا للسطوة المعنوية على الجمهورية الإسلامية.

أما مصر فلا تقرّ أيا منهم على أهدافه الكاملة، ولا تغض الطرف عن طبيعة المرحلة وحاجتها للتوافق، الذى يبدأ وجوبا من ترميم الداخل الفلسطينى وتجميعه على أرضية واحدة، ولا تكتمل فائدته من دون التكامل الإقليمى وتوظيف عناصر القوة العربية كلها، بمعزل عن المشاغبة ومحاولة الاستئثار بالقرار وواجهة المشهد.

يجابهنا العدو بأجندة واحدة؛ بينما نتصدى له برؤى متخاصمة ومتصارعة فى الغالب، وبأسها شديد بينها بأكثر من شدته على الخصوم والمناوئين.
كان الطوفان نيرانا صديقة أصابت مطلقيها قبل غيرهم، وكذلك برنامج الشيعية المسلحة من حرب الإسناد التى شنها حزب الله إلى اشتباك إيران مع الاحتلال فى سوريا وفارس ومن جهة الحوثى باليمن.

ولا يختلف موقف الجناح السنى، محمولا على أفكار عثمانية تتجدد بعد قرن من سقوطها، ونافذا إلى الأحشاء عبر أدوات رديفة تشبه الأذرع الإيرانية، سواء ميلشيا هيئة تحرير الشام وحلفاء الجولانى، أو حماس فى غزة، والتنظيم الأم من بقايا جماعة الإخوان وأدواتها فى الشتات.
ليس عابرا أن تدعو الجماعة الإرهابية إلى التجمهر وحصار السفارات المصرية بالخارج، ولا أن تصمت بعض الدول ومنها عواصم عربية على اختراق القانون والأعراف الدبلوماسية.

يُستَثمر الغضب والتشغيب إلى مداه الأقصى، وتُحرّف البوصلة بالقصد لصالح بدائل من خارج العقل تماما، ولا يمكن أن يكون الدفع فى هذا الاتجاه إلا بغرض الإجهاز على ما تبقى من القيم العابرة لأزمنة الفوضى، وفتح الطريق نحو إرباك المعادلات المستقرة على أمل استخلاص المنافع المأمولة، أو ترجيح أحد التيارات المتصارعة على الحاضر والمستقبل.

لم تكن مصر طرفا فى أزمات الداخل الفلسطينى. حافظت على الاتساق وسلامة القصد فى أحلك الفترات، وامتنعت عن الاستثمار فى الفصائل أو خلق قاعدة محلية تابعة لها. لم ترحب بانقلاب حماس فى العام 2007، كما لم تنحَز للسلطة الوطنية، ورعت عددا من جولات الحوار والمصالحة. لم تُموّل الحركة أو تصوّب على رام الله، ولا شجّعت على نزوة السنوار أو ركبت موجتها كما فعل الآخرون.

ولهذا؛ فإنها آخر طرف يُمكن أن يُلام فى الانقسام سابقا أو الانتحار حاليا، ولا يمكن توجيه أصابع الاتهام نحوها؛ إلا لو كان القصد إبراء ذمة الحماسيين ورعاتهم، أو تمكين نتنياهو ورفده بالذرائع، وذلك بجانب الغاية الإخوانية الدائمة لإحراج دولة 30 يونيو والمزايدة عليها وملاحقتها بالعوائق والمنغصات.

قرأت أمس منشورا على «فيس بوك» لأحد شباب الإخوان المقيمين فى الخارج، يُنظّر فيه عبر مطوّلة عاطفية فجّة وساذجة لموقف الجماعة المضاد لمصر حاليا، زاعما أنه ناشئ عن مظلمة طالتهم بأثر الطرد من السلطة والملاحقة الأمنية لعناصر التنظيم وعائلاتهم.

لم تحضر غزّة إلا على سبيل الابتزاز والضغط النفسى، ولأجل أن تكون بهارات للخطاب وحائطا للردع عن الانتقاد؛ ما يعنى أن الأصولية ما تزال ترى نفسها موضوع النزاع الأصيل، وتختزل الأوطان والقضايا فى صورتها وشعاراتها، ولا قيمة للقطاع وضحاياه إلا بقدر ما يوفرونه من ذخيرة تعبوية، بل لا قيمة لفلسطين بكاملها إلا بقدر ما تربح الأيديولوجيا ولو ضاعت الأرض والبشر، أو كما قال القيادى الحمساوى البارز محمود الزهار سابقا إنها «مجرد مسواك فى الفم».

على مدى يومى الأحد والاثنين الماضيين، انعقد المؤتمر الدولى لتحالف حلّ الدولتين فى نيويورك، برئاسة سعودية وشراكة فرنسية. وتضمّن بيانه الختامى بندًا عن نزع سلاح حماس وتسليمه للسلطة الوطنية، فى إطار رؤية تجميعية تُعيد بناء الجبهة الفلسطينية، وتتكامل مع عِدّة محاور إضافية تتنوّع بين الاعتراف بالدولة والإعمار والتسوية الإقليمية الواسعة.

لكن الحركة لا تتقبّل مسألة الخروج من المشهد؛ ولو ادّعت العكس، ولهذا تفاوض منذ قرابة السنتين على لا شىء تقريبًا سوى بقائها، مع تآكل قوتها وأوراق المقايضة لديها ممثلة فى الأسرى، وانتكاس القطاع من سيئ إلى أسوأ.

أعلنت باريس ولندن استعداداهما للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتبعتهما مالطا، ولحين موعد الجمعية العامة للأمم المُتّحدة فى سبتمبر المقبل، قد يتصاعد العدد إلى عشر دول، تُضاف إلى نحو 147 دولة تعترف بالفعل.

تلك عوائد المأساة وطوفان الدم الذى موّله الغزّيون من شرايينهم؛ لكن السخف الأصولى سيذهب بالتأكيد إلى تثميره لصالح «طوفان السنوار»، واعتباره من عوائد المعركة التى أنهت الحياة فى غزّة، ويتشدَّد أصحابها فى اعتبارها نصرًا كاملا.

شىء من هذا يحدث فى لبنان؛ إذ أبرم حزب الله اتفاقا مع إسرائيل أواخر نوفمبر الماضى، يقضى بتفعيل القرار 1701 بما يشتمل عليه من مُخرجات القرارين 1559 و1680، وبنودهما المُلزمة لجهة ضبط الحدود ونزع السلاح؛ لكنه بعدما مَرَّر فترة الضغط الكبرى وخرج من سحابة الحرب، عاد إلى موقفه السابق عن عصمة قدراته العسكرية، وأولوية أن يظل دويلة داخل الدولة وفوقها، تحكمُ الدستور والقانون وتحتكم لإرادة الولى الفقيه.

وعليه؛ فقد جاء المبعوث الأمريكى توم برّاك ورحل ثلاث مرّات، وما توصّل اللبنانيون بسلطتهم وقواهم السياسية إلى شىء، ويتردَّد أن واشنطن تُمهلهم حتى أغسطس المقبل، فيما يقول نعيم قاسم ورجاله إنهم سيقطعون اليد التى تمتدّ على سلاحهم.

كان المُبرّر أن السلاح يُقاوم ويحمى؛ لكنه بعد حرب العام 2006 صار وبالاً على البيئة كلها، لا المسلحين وحدهم، وتأكدت التراجيديا القاتمة فى الصدام الأخير بعد «حرب الإسناد والمُشاغلة»، فما شاغل إسرائيل أو ساند غزّة، إنما استجلب الاحتلال مُجدَّدًا، وعرّض الجنوب لدمار يفوق ما كان قبل عقدين.

هكذا تنظر حماس وغيرها للأمر، وتراه من نفس الزاوية. لا يهم ما تتكبّده القضايا أو ينزفه ضحاياها؛ بقدر ما ينصرف الاهتمام وكامل الجهد إلى حراسة مفاتيح القوة؛ لأنها غير مُستقلة فى وجودها وقرارها؛ إنما تأخذ الأمر من الخارج، وتتحدّد أهميتها وفق ما يراه الرعاة والمُموّلون.
وإزاء جبهة وطنية كاملة صارت ترفض سلاح الحزب فى لبنان، تفرض الضاحية رؤيتها بالحديد والنار وذكريات اقتحام بيروت، والحرب الأهلية من قبلها.

ولو اتّسع مجال الرؤية فى غزة لَمَا اختلفت الحال؛ إذ يضيق الغزّيون بالفصائل كلّها وعلى رأسها حماس، ولا يُوسِّع المُغامرون عقولهم وحدقات عيونهم لاستكشاف المُسبِّبات القاسية التى حوّلت مشاعر الناس، أو استيعاب أنهم عرّضوا بيئاتهم لِمَا لا تُطيق أو يعجز صبرها عن المواصلة فيه؛ بل يُفسّرون الأمر دائمًا على صيغة المؤامرة والعمالة وطابور إسرائيل الخامس بين منكوبى القطاع.

أطراف إقليمية غذّت صخب الأيديولوجيا الأصولية، وأُخرى تُسلِّم أوراقها دون تفكير فى استغلالها أو المفاوضة عليها، واحتلال يتلطّى وراء نزق الفصائل وانتهازية الإسلاميين.

ولا فارق هُنا بين قرار الطوفان دون جاهزية واستعداد، أو بطش الصهاينة بالمدنيين العُزّل، أو تراقص الإخوان والشيعية المُسلّحة على الطلل والأشلاء، وأخيرًا إظهار بعض القوى لخطابات غير ما تُبطنه، وتقديم الحد الأدنى ممَّا تطاله يدها، مع الترحيب الضمنى بتفكيك مراكز القوة الإقليمية القديمة، على أمل أن ترث مكانة لا يُؤمّنها لها التاريخ أو المكان.

صارت فلسطين غنيمة الأعداء من كل الألوان، ومطمع الانتهازيين الذين تتصالح تناقضاتهم العميقة على حساب الأرض والبشر، ولا مانع لديهم من تصويب بنادقهم على آخر المعاقل الباقية، النزيهة، والأكثر إخلاصا واجتهادًا فى تحصين المنطقة أو ترميم شقوقها.

ثمّة ائتلاف رمادى يتشكّل بالقصد فى ناحية، وبالاعتباط فى نواحٍ أُخرى، بالخفة أو الطمع أو سوء القصد، وكلٌّ يغنى على ليلاه، فيما لا تتوقف ليلى عن البكاء على الأطلال، وعن التحذير من رُعب أكبر سوف يجىء.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب