تحت وطأة الانفجار المعلوماتى الهائل وفى خضم الثورة المعرفية المتسارعة، أصبحت العقول ميدانًا مفتوحًا للاختراق أكثر من أى وقت مضى، وصار يبث فى لحظة عبر شاشة هاتف، ويغلف بذكاء فى تغريدة ويهمس بإتقان فى إشاعة تغلف برداء المنطق، أو يمرر بدهاء فى هيئة رأى متداول، أو محتوى عابر يروج له بمنطق الزيف المقنع.
إننا نعيش عصرًا تتداخل فيه الحقيقة مع الوهم، ويصبح فيه الرأى العام ساحة صراع غير مرئية، تتنافس فيها القوى على تشكيل الإدراك وتوجيه المشاعر وصياغة القناعات، وتكمن هنا الخطورة الكبرى، حيث يستهدف الهجوم الوعى ويتسلح بالتكرار والتضليل والتطبيع مع الشك، ومن ثم تتزايد الحاجة إلى الحصانة المعرفية بوصفها خط الدفاع الأول عن الذات والعقل والمجتمع، فقد صارت المعركة معركة روايات، وصور، وتوجهات، ومعطيات متضاربة تغرق الفرد وتفقده البوصلة، فالعقل غير المحصن يتحول بسرعة إلى أداة فى يد من يريد السيطرة عليه، ويصبح الناقل الأمين لخطاب التشكيك دون أن يشعر.
وتتجلى أهمية الحصانة المعرفية فى ظل هذا الواقع، كخط دفاع أول لصيانة الإنسان والمجتمع والدولة على السواء، فالعقل الذى لا يتحصن بالوعي، ولا يتدرب على التمييز والتحقق سرعان ما يتحول إلى فريسة سهلة لعمليات الاستلاب الناعم، والتوجيه الخفى وقد يغدو أداة بيد من يسعى لاختراق المجتمعات من الداخل، وتقويض ثوابتها من حيث لا تدري.
ولقد أصبح الوعى ضرورة ومعركة حياة ومطلبًا أمنيًا ومعرفيًا، ومن ثم غدت صناعة الوعى الحصن الأخير والضمان الأوثق لصون الهوية الوطنية من خطر الذوبان فى الآخر، أو التلاعب بها تحت لافتات زائفة وشعارات براقة ومغريات مضلّلة تخفى خلفها مشاريع تفريق وتضليل، فالوعى فى زمن التزاحم المعلوماتي، بات شرطا للثبات، وأداة لحماية الذات، وسياجا للأمن المجتمعي.
وتمثل الحصانة المعرفية البنية التحتية للوعي، والدرع الخفى الذى يحول بين الإنسان والانزلاق إلى مستنقعات الجهل المركب أو التبعية الفكرية والمعرفية، فهى امتلاك للمعلومات وحيازة نقدية للمعرفة والقدرة على تمحيصها وإتقان مهارة تحليلها والتحلى بالشجاعة اللازمة لرفض الزائف منها، مهما بدا مغريًا أو مقنعًا، فالعقل المحصن لا يستدرج ببريق العناوين أو الإغواء الإعلامى، ولا ينخدع بالخطاب العاطفى أو الدعائى ولا ينجر وراء التضليل أو يقع فى فخاخ الشائعات، لأنه يمتلك جهازًا مناعيًا داخليًا، قوامه التأمل، والتحقق، والتفكير النقدي.
ولا ريب أن أخطر ما يتهدد المجتمعات المعاصرة يتمثل فى القدرة الممنهجة على تسويق الوهم بأدوات تتخفى فى ثوب العقلانية، أو الإنسانية، أو حتى العلمية، فالشائعات باتت أسلحة ناعمة ضمن منظومات حروب الجيل الرابع والخامس، وتستخدم لهدم الثقة بين المواطن ومؤسسات دولته، وتشويه الرموز وإرباك الإدراك الجمعي، وبث الشك فى كل ما هو ثابت، وهنا تتجلى خطورة تغييب الوعي، حين يتحول المواطن إلى متلقٍ سلبي، يفتقر لأدوات التمييز، فيغدو فريسة سهلة وقوة سلبية داخل وطنه، بدلًا من أن يكون ودرعه الواقى وحامى سيادته.
أثبتت التجربة المصرية، بما تملكه من تاريخ ممتد وموقع جيوسياسى فريد، أن الحروب الأخطر تدار فى العقول والوجدان، وأن بناء الدولة يتم عبر القوانين والمشروعات والاصطفاف الوجدانى والمعرفى حولها، ذلك الاصطفاف الذى يتأسس على وعى مسؤول، وقدرة على التمييز، وانحياز صادق لما هو وطني، فى مواجهة موجات التشكيك ومحاولات الاختراق الناعم، فالدولة هى شبكة من المعانى والدلالات المتجذرة فى وجدان الشعب، ويضطلع العقل الواعى بحمايتها وصيانتها من كل ما يهدد ثوابتها أو يسعى لتقويض تماسكها.
وهنا تتجلى الحصانة المعرفية بوصفها فعلاً وطنيًا بامتياز وسياجًا للأمن القومى ومسؤولية جماعية لا تخص النخب وحدها، فهى تبدأ من المدرسة والبيت والمنبر والإعلام، فالحصانة تبنى حين نعلم أبناءنا كيف يسألون وكيف يفكرون وينقدون، وندربهم على فحص المصادر ومساءلة الخطابات السائدة قبل تبنيها أو ترديدها، فالعقل الذى لا يعتاد المراجعة، ولا يمارس التفكير والتحليل، يتحول سريعًا إلى أرض خصبة للزيف، وساحة مفتوحة للاختراق، وعندها يصبح الخطر داخليًا أكبر من الخطر خارجيًا ، لذا فإن صيانة العقل من التزييف والوجدان من التشويه صيانة للوطن ذاته.
وقد أظهرت الدراسات الاجتماعية، أن المجتمعات التى تكرس ثقافة التفكير النقدى داخل منظومتها التعليمية، وتحمى حرية الرأى دون أن تتساهل مع ترويج الأكاذيب، وتستثمر فى بناء عقل جمعى ناضج، هى المجتمعات الأقدر على التصدى للحروب النفسية والمعرفية التى تستهدف بنيتها الداخلية، وهنا تبرز الحاجة إلى استراتيجية معرفية متكاملة تبدأ بالتعليم، الذى لا بد أن يتحول إلى منظومة تفاعلية تعلم الطالب كيف يفكر ويمارس، يليه الإعلام الذى ينبغى أن يتحول إلى منطق التثقيف والتحقق والتفسير الرصين.
ولا بد أن يضطلع المجتمع المدنى بدوره كشريك فاعل فى ترسيخ الثقافة المعلوماتية، وتعزيز مهارات الفرز العقلى وفضح خطابات الكراهية، ولا يقل دور المؤسسات الدينية والثقافية أهمية، إذ يقع على عاتقها مسؤولية إعادة بناء الثقة فى الخطاب القيمي، والتصدى للتأويلات المتطرفة، وتحصين الإنسان من الانغلاق والانبهار الزائف كما يعد صوت المثقف أحد أعمدة الحصانة المعرفية، فانخراطه اليومى فى معارك الوعي، ومخاطبته للجمهور بلغة تجمع بين الرصانة والتبسيط، يشكلان جبهة متقدمة فى مواجهة محاولات التشويه والاستلاب.
ويكفى أن نتأمل حجم المعلومات المغلوطة التى تنشر يوميًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحجم الشائعات التى تطعن فى كل منجز، وتختزل أعوامًا من العمل الوطنى فى جمل ساخرة أو تعليقات هازئة، لندرك أن المعركة باتت يومية، وأن التحصين المعرفى بات أولوية قصوى، فالأخبار الزائفة لا تكتفى بتشويه الحقائق، ولكن تزرع الشك فى النفوس، وتغتال الروح العامة، وتفسد مناخ الثقة، وكلها عناصر تمس تماسك المجتمعات واستقرارها فى الصميم.
لذا، فإن الاصطفاف الوطنى يستند إلى وعى متجدد بطبيعة المعركة، وإدراك عميق بأن بقاء الوطن مرهون بقوة السلاح وبقوة الوعي، فالدفاع عن الدولة يكون بالمواجهة وبالكلمة الصادقة، والمعلومة الدقيقة، والقراءة الواعية، والنقاش المسؤول، فحماية الوطن تبدأ بتحصين العقول، لمواجهة التحديات برؤية إصلاحية واعية تحفظ الكيان، وتصون الاستقرار، وتبنى مستقبلًا يليق بكرامة الوطن ووعيه.
ويقدم النموذج المصرى درسًا بالغ الأهمية فى هذا السياق؛ فقد واجهت الدولة المصرية، خلال العقد الماضى ومازالت، موجات متلاحقة من الشائعات الممنهجة، والحروب النفسية والإعلامية التى سعت إلى تزييف الوعي، وتقويض الثقة بين المواطن ومؤسساته، وتشويه ما تحقق من منجزات وطنية، ورغم ذلك، تمكنت القيادة السياسية بدعم واعٍ من مؤسسات الدولة، واصطفاف شريحة واسعة من الشعب المصري، من عبور تلك التحديات بثبات ويظل استمرار هذا الصمود والاصطفاف رهينًا باستدامة التحصين المعرفى وتجذير ثقافة المقاومة الواعية وترسيخ مناخ من الثقة المتبادلة، قائم على المصارحة والمكاشفة والإنجاز الحقيقى الملموس.