في هذا الوطن، لا تُعلن الحرب بصوتٍ عالٍ، لكنها تُخاض كل يوم في صمت… بين خلية تُحبط قبل أن تنفجر، وفكرة مسمومة تُكسر قبل أن تنتشر، وعيون لا تنام، وجنود في الظلّ لا يُسلّط الضوء عليهم، لكنهم حائط الصدّ الأول في معركة أصبحت أخطر من مجرد مواجهة مسلحة.
ما جرى مؤخرًا من إحباطٍ لمخطط إرهابي غادر، ليس مجرد إنجاز أمني يُسجل في دفاتر الأداء، بل هو مشهد جديد في ملحمة مصر الممتدة… ملحمة تنتصر فيها الدولة بالوعي، وتُفشل الإرهاب بالعقل، وتسبق التهديد بخطوة، أو عشر.
وفي هذا الإطار، جاء بيان وزارة الداخلية الأخير ليؤكد أن أجهزة الأمن المصرية لم تكن تراقب فقط، بل كانت تخترق وتُحكم الطوق، حتى نجحت في القبض على خلية تابعة لحركة “حسم” الإرهابية، وضبط عناصر مدربة عسكريًا كانت تخطط لتنفيذ عمليات نوعية تستهدف منشآت حيوية ومصالح الدولة. إنها ضربة قاصمة، ليس فقط في بعدها الأمني، بل في توقيتها ورسالتها: نحن نعرفكم قبل أن تعرفوا أنفسكم، ونصل إليكم قبل أن تتحركوا خطوة واحدة.
تحية لرجال وزارة الداخلية، ولقطاع الأمن الوطني، وللعيون الساهرة التي تحرس البلاد من خلف الكواليس، فلا يراهم الناس، لكن يشعرون بأثرهم في كل صباح آمن.
إن خطر الإرهاب لم يعد يرتدي حزامًا ناسفًا فقط، بل تسلل إلى المعجم، وإلى شاشة الهاتف، وإلى زوايا التعليم والدين والإعلام. لذا لم تعد المواجهة مجرد إيقاف عنصر متطرف، بل إيقاف فكرة متطرفة قبل أن تجد لنفسها مستمعًا أو متعاطفًا.
لقد أدركت مصر أن معركتها الحقيقية ليست مع من يرفع السلاح، بل مع من يزرع الشك، وينسج رواية موازية، ويستخدم الدين ستارًا، والعقيدة فخًّا. وهنا يُنسب لفكر الإمام أبو حامد الغزالي ما يصلح أن يكون شعارًا لهذه اللحظة:
“إذا رأيت رجلاً ينزل إلى بئر ليخرج ماء، ورأيت آخر ينزل لينزع السقّاء، فالأول عامل، والثاني سارق؛ والفارق: في النية، لا في الفعل.”
الإرهاب لا يَقتل فقط، بل يسرق المعنى من الأفعال، ويشوّه النية باسم الدين، ويُضلّ الناس تحت لافتة الجهاد. وهنا تظهر قيمة الوعي… الوعي الذي هو في ذاته “درع”، والذي إن حضر، تساقطت دعاوى المتطرفين كأوراق خريف هشّة.
إن ما فعلته أجهزة الدولة ليس مجرد إفشال لمخطط، بل ترسيخ لمنظومة كاملة عنوانها: لا مكان على هذه الأرض للمتربصين، لا موطئ لفكرة متعفنة، ولا عبور لمن يحلمون بعودة الفوضى من بوابة جديدة.
مصر، وهي تُسقط “حسم”، لا تحتفل بالنصر وحده، بل تُؤكد أنها تحيا بمنطق مختلف: لا تنتظر من يعتدي، بل تتحرك قبل أن يفكر، وتُداوي المجتمع بفكرة، كما تحميه برصاصة.
في هذه الأرض، الوعي لا يُستَورد، بل يُصنَع على نار التجربة… والتحدي… والانتماء.