حازم حسين

أحداث السويداء بين الدولة والعصبة.. عن سوريا ومخاطر انحلال الرابطة الوطنية

الخميس، 17 يوليو 2025 02:00 م


لم يخرج الشرع من عباءة الجولانى حتى الآن، وما انكشف من سيرته القديمة فإلى إرث الأسد، وعلى دربه يسير. وكل ما حدث أن الأغلبية السنيّة استُبدلت بالأقلية العَلَوية، وشمولية البعث اتَّخذت هيئة أًصولية بدّلت هوى الشام من الشيعية المُسلّحة إلى العثمانية الجديدة. لم تكن ثورة على الإطلاق، ولا عمل إصلاحيا بما يتبدّى فيه راهنا. القديم بائس، والجديد لا يقل بؤسا، والمخاطر مُتطابقة فى الحالين تقريبا.

جرت عملية الإحلال وإعادة تهيئة القيادة الجديدة على وجه الاستعجال. صُرِف النظر باستخفاف عن طبيعة الميليشيا القاعدية وقائدها، وغُفِر له ما تقدّم من ذنبه دون أن يُبدى نيّة صادقة فى التوبة، أو عزمًا واضحا على المُجاوزة والانقطاع عن ماضيه المشبوه. وفيما كانت السوابق حجّة على بشّار؛ فإنها صارت مُسوِّغًا لترقية خليفته. مادّة واحدة تُقرأ على وجهين، وجريمة تُصرَّف هنا وهناك كيفما شاء لها الهوى.

ويُخطئ الناظر فى وقائع السويداء الأخيرة بمعزلٍ عن السياق المُركَّب وشديد السيولة طيلة الشهور الماضية. لقد مُنِح الصاعدون الجُدد حقوقًا مُطلقةً دون أيّة التزامات، وأُسبِغَت عليهم رعاية إقليمية ودولية لا تتساند إلى ما يُبرِّرها، وما من منطقٍ فيها إلا أن تكون سُلطة الأمر الواقع صنيعةً مقصودة ضمن مُخطّط سابق التجهيز، أو مُنتدبة لأدوار وظيفية تتخطّى جغرافيا سوريا ومصالحها الحيوية. وعليه؛ فلم تُدعَ إلى التزامات مُفصّلة ومُجَدوَلة زمنيًّا، ولم تُوضَع أصلاً فى موضع التقييم والمُساءلة، فتطمئن بالتبعية إلى حرية التحرّك ومأمونية المآل.

عاشت المحافظة الجنوبية أيّاما سوداء، افتُتِحَت تحت ستار الاشتباك بين العشائر البدوية وأهلها من الدروز، ثم تدخّلت قوّات الجولانى ووزير دفاعه مرهف أبو قصرة لحسم المعركة ظاهرا، واستكمال مفاعيلها فى الجوهر. ولعلّ ما نُسِبَ إلى مُقاتلى هيئة تحرير الشام يفوق ما ارتكبه الآخرون، وقد امتدّ إلى الترويع والقتل والحطّ من الكرامة واقتحام البيوت على الآمنين من الشيوخ والأطفال.

تطايرت مواد بصرية مُوثِّقَة لنوعيَّة من الممارسات الفجّة، عُرِّض فيها المُسنون إلى حالات رخيصة من استعراض القوّة بغرض الامتهان، وحُلِقَت الشوارب بما ينطوى عليه ذلك من رمزية موجِعة لدى الطائفة الدرزية، كما انتُهِكَت الاتفاقات السابقة مع المرجعيات وشيوخ العقل فى المنطقة، إلى أن تدخلت القيادة العسكرية من دمشق مُعلنة وقف إطلاق النار.

وبعيدًا من التسرُّب الاحتيالى عبر طرف ثالث، ثم الانتشار العسكرى الواسع فى أرجاء السويداء وقراها المُحيطة، وأعمال الإرهاب والنهب وكىّ الوعى الأقلّوى فى المنطقة، مرورا بوقف المقتلة ثم تجدُّدها، ووصولاً إلى التمركز على خلاف المُتَّفق عليه، والحديث عن تسليم لقوى الأمن العام؛ فالعملية بكاملها تبدو مُعدَّة وفق السيناريو المُعتاد، ومُتّصلة بالحلقة الأولى فى مناطق العلويين على الساحل، وما يُجهَّز اليوم للأكراد شرقا وفى الشمال الشرقى.

يتدرّج الحُكَّام الجُدد فى بسط ولايتهم على الجغرافيا والديموغرافيا، لا من جهة الاتفاق والشراكة وإطلاق مشروع وطنىّ جامع وإقناعى؛ إنما من جهة التغلُّب بالسيف وتمرير أجندة الابتلاع واحتكار السلطة رغما عن الخلافات الاجتماعية والسياسية، وبالقهر وإخصاء المجال العام بما يضمن احتواءه مرّة وإلى الأبد.

ليست مُصادفة أن تندلع الاشتباكات بعد ساعات من زيارة الجولانى لأذربيجان، وما تردّد عن لقاءات سورية إسرائيلية فى باكو، حضر الرئيس المؤقّت جانبًا منها مع مفوَّض رفيع المستوى عن بنيامين نتنياهو. وإذا كانت التفاصيل قد وردت من إعلام تل أبيب؛ فليست المرّة الأولى على أية حال. ودمشق لا تُنكر الحوار والالتقاء بوفود الاحتلال، كما لا تُعلن شيئا عن الكواليس المتكررة، وقد تأكَّد لمرّة على الأقل أنهما خاضا جولةً على الأراضى الآذرية برعاية تُركية أمريكية.

لا يُنكَر أن حكومة الشام الجديدة تعيش أوضاعًا بالغة الصعوبة، وتواجه إرثًا مُعقّدًا وأعباء ثقيلة. ما فعلته العائلة الأسدية وعقود البعث بالبلاد شديد الوطأة جدًّا، ويتأبّى على الاستدراك والإصلاح فى أسابيع أو شهور. إنما لا يُمكن بالدرجة نفسها ابتلاع أن يكون الاستثناء ذريعة لمزيدٍ منه، وبديلاً عن ضروريَّات الترميم والتضامّ بين المكوّنات السورية، وافتتاح ورشة يتشارك الجميع فى تكاليفها وعوائدها؛ لا أن يكونوا مدعوّين للصبر والاحتمال حصرًا، ومُستبعَدين من الإدارة ومُجرَّد التفكير فى مساراتها قهرًا.

الشرعية أكبر أزمات الجولانى من دون شَكّ؛ لكنه بدلاً من العمل على بنائها قاعديًّا وبالتوافق العام، يستعيض عنها بالتفويض الخارجى، وسُلطة الأمر الواقع تحت ظلّ السلاح. يحتكرُ كلَّ شىء تقريبًا لنفسه مُجسِّدًا صورة الحاكم المُتألِّه، وما يُقرِّر أن يفوِّضه من اختصاصاته لا يخرج عن دائرته الضيِّقة وحلفائه الأيديولوجيين، وغنىُّ عن البيان أنه يتلقّى أوامر واضحة من رُعاة أو حلفاء خارجيِّين، ويستجيب للإرادة الأمريكية وغيرها من الخارج بأكثر مِمَّا تعنيه الإرادة الشعبية فى الداخل.

يقبض الرجل على خناق العاصمة تماما، مع قدر من الهيمنة على الخطّ الصاعد منها شمالاً باتّجاه إدلب. وبهذا؛ فإن أطراف الخريطة تبدو خارج ولايته بصورة أو أخرى. فوضى الساحل فى الغرب، واستقلالية الإدارة الذاتية الكردية شرقًا، ومَنعة الدروز واستعصاؤهم جنوبًا بجانب الاحتلال الإسرائيلى طبعًا، والصورة المقابلة شمالاً باحتلالٍ عُثمانى جاثم على طول الحزام الحدودى، تُرافقه ميليشياتٌ ولائية تتمثّل صورة الجار القوى وتستعير لعصاباتها أسماء سلاطينه الغابرين.

وإذا كان الطريق إلى التعافى يمُرّ وجوبًا من قناة التوحيد، ووصل المُنقطع بين البلاد والعباد لربط المُتفرّقات ببعضها؛ فهذا مما لا يُمكن أن يتحقَّق بالقوّة الغاشمة، ناهيك عن أن تُخالطه الانتقائية وانحرافات التنفيذ غير المفهومة أو المُبرَّرة. إذ بقدر ما يُطلق أياديه السوداء لنَحر العلويين على الساحل كما كان قبل أربعة أشهر، وترويع الدروز الآن فى السويداء، يُلاطِف الأكراد لاعتبارات تخصُّ الرؤية الأمريكية الغائمة حتى الآن، ويصمت تمامًا عن الاحتلال جنوبا وفى الشمال.

وبهذا المنطق؛ فربما لا تُفهَم التحرُّكات العدوانية بحق الأقلّيات الدينية إلا باعتبارها عملاً لمصالح الآخرين، أو استغلالاً للمسموحات والمواءمات المُدارة بين الفاعلين فى الخارج، للإجاهز على مكوّنات وطنية أصيلة تُظلَم بالتنسيب لأطراف أخرى، أو بأنها لا تجد حاضنة أو ظهيرًا يُدافع عنها. فكأنه يُروّع طائفة الأسد فى اللاذقية ثأرًا منه واختصامًا لإيران، ويضرب الدروز عقابًا على اتّصالهم العقائدى بالجولان المُحتلّ، أو رغبة فى فصلهم عنه تمامًا. وبالتبعية لا يمنعه عن الانقضاض العرقّى على الكُرد؛ إلا أنه لم يتلقّ الضوء الأخضر، ولا يملك أشراط العُنف وفرض الإرادة عليهم حتى اللحظة.

والحال؛ أنه ينفذ إلى السويداء من شقوقها الذاتية، ومن اختلافات أهلها بين تيّارين عريضين يتفرّعان عن مواقف شيوخ العقل: حكمت الهجرى فى خطابه المُتطرّف داعيًا إلى الحماية عبر التدخُّل الدولى، وحمود الحناوى ويوسف جربوع المُقدِّمين لمواطنتهما السورية على غيرها، شريطة احترام التمايُزات والحقوق الأصيلة وعدم الجَور على الأُطر الثقافية الناظمة للاجتماع وعلاقة المجتمع ببعضه وبالدولة.

من هُنا، يُمرِّر رجال الجولانى هجمتهم أمام البيئة السنيّة الحاضنة من جهة الخطاب الانفصالى المُتعانق مع موفق طريف وجماعته داخل إسرائيل، ويؤسِّسون رؤيتهم للإملاء وفرض الوصاية على مواقف المُتمسّكين بنهائية الوطن السورى، ولم يطرحوا بديلاً عنه أو ربما لا يعرفون البديل من الأساس.

أمّا لماذا التوقيت، وقد ارتضت دمشق سابقًا أن تتوافق مع وجهاء المنطقة على ترتيبات أمنية خاصة، وأن تترك لهم السلاح والضابطة العدليّة وتنزل عن حقها فى السيطرة والإدارة المباشرتين؛ فربما لأن الجولانى استشَفّ من لقاءات أذربيجان إمكانية تحريك الأوضاع المُتجمّدة جنوبًا، أو قرأ الرسائل الإسرائيلية على خلاف حقيقتها، ولأغراض يسعى منها لتحسين موقعه التفاوضى مع الاحتلال، أو تأمين مسار الانفلات من التزاماته تجاه الجنوب فى أية تسوية مُقبلة.

وتفسير النقطة السابقة؛ أن السويداء ومحيطها خارج سلطة دمشق بالكُليّة، بينما ينتشر الصهاينة فى أرجاء المنطقة ويحتلّون مرتفعات جبل الشيخ، ويرابطون على بُعد ثلاثين كيلو مترا أو أقل من دمشق. إنما يظلّ مُلتزمًا بالسياسة والمسؤوليات الوطنية تجاه الجغرافيا وساكنيها، ومطلوبًا منه أن يتصدّى لأطماع إسرائيل، أو يبحث عن مخرج آمن له حال إنفاذها. فكأن التصعيد مع الدروز يُراد منه الوقوف على الأرض هنا والآن؛ لتكون ورقةً للمُقايضة فيما بعد، أو مدخلاً لابتكار تسوية تلاقى تطلّعات تل أبيب، ولا تحتاج إلى مَدّ بصرها لِما وراء حزامها القريب طمعًا فى مُكتسبات أبعد.

ينشط السلاح فيما تتجمَّد السياسة تمامًا؛ وهذا على صعيد الداخل الوطنى بالأساس؛ لأن الجولانى ورجاله ينشطون مع الخارج القريب والبعيد، ويُقدِّمون الهدايا والترضيات، ويتلقّون الإملاء والتوجيهات بصدرٍ رحب. لأجل رفع العقوبات يتفاوضون مع إسرائيل، ويشتركون فى ورشة الاستقصاء وتعقُّب بقايا محور المُمانَعة لغايات إقليمية ودولية، وحتى يُقدِّموا صورة مثالية عن أنفسهم وفق النمطيّة المُحبَّبة لرُعاة سوريا والمُتسلّطين على حقبتها الجديدة.

عُوقِب علويّو الساحل لمُجرَّد أنهم يتشاركون الاعتقاد مع رأس النظام السابق. والحوار والمُلاطفة لم يُجنّبا الدروز معبّة الالتحاق بطابور الترويض بالترويع. أما اتفاق الأكراد مع الجولانى فى مارس الماضى فلم يُغيِّر شيئا فى الأمر، وما زال الأخير يُصرّ على أن يأخذ كلّ شىء دون أن يمنحهم أى مقابل، ومؤخّرًا شهدت مناطقهم تصعيدًا واعتداءات أسفرت عن سقوط عدد من القتلى، آخرها الثلاثاء، وكلّها بعد فشل جولة حوار أخيرة فى دمشق، وبدء موجة تحريض على الإدارة الذاتية من جانب النظام وبعض مُقرّبيه.

ولا يحتاج مظلوم عبدى وأى كُردى آخر لمهارة استثنائية؛ حتى يكتشف أن التسوية المطلوبة فى جانب السلاح والإدارة، ستكون مُقدِّمةً لوضعهم على المذبح كما حدث مع الآخر المُختلف غربًا وفى الجنوب. وبهذا؛ فإمّا يغيب الحوار بين الفرقاء تمامًا، أو يُستحضَر ليكون أداة للخداع والالتفاف على المكوّنات المتوجسة من السلطة، بدلاً من طمأنتها أو تفعيل الإشارات الواجبة على السلطة لجهة الاحتواء والإشراك فى إدارة الانتقال.

وإلى ذلك؛ فلا يخلو الأمر من إثارة للغبار عبر الحدود. كأن يتحدّث قادة من النظام الجديد عن ملف الموقوفين فى لبنان، قاصدين فى الغالب عناصر التيّار الإسلامى وبعض المحسوبين على هيئة تحرير الشام والميليشيات الرديفة، دون العوام والجنائيين بالطبع. وجاء الكلام مشمولاً بالتهديد بإغلاق الحدود، أو اتخاذ إجراءات أمنية مُشدّدة بشأن الجارة الصغيرة. وصولاً للحديث عن سلاح حزب الله وضرورة نزعه، وأن التأخُّر فى هذا يُشكِّل تهديدًا خطيرًا لسوريا الجديدة.

وبالنظر إلى أن الحزب يُشاغِب بيئته قبل الآخرين، ولم يعُد فى مقدوره أن يمد يده إلى أى اتجاه إلا ماء المتوسط؛ فإن إثارة المسألة من جهة دمشق تبدو وثيقة الصلة بخطِّها المفتوح مع إسرائيل، وما يتطلّع إليه رُعاتها المباشرون من الأناضول وبعض العواصم الإقليمية، وليس عن حاجة سورية أو مخافة حقيقة مؤكدة؛ لا سيما أن انفلات السلاح فى الشام أكبر وأخطر من كل ما يتهدّدها من الخارج، والميليشيات الحاضنة للنظام تفعل بالبلد ما لا يُمكن أن يفعله الحزبيون أو غيرهم من بقايا المُمانَعة.

يحق التحسُّب لانتفاضة الحزب أو فورانه طبعًا؛ إنما لا يبدو مُبرَّرًا على الإطلاق أن يُقدَّم هذا الاعتبار، على الخطر المُتجسّد عمليًّا فى صُلب الدولة وهياكلها، وعن الاحتلال الحاضر بظله الثقيل عند رأس الخريطة وقدميها. لا يُمكن أن يكون الحزب أخطر من إسرائيل، ولا أقدر على ابتلاع مساحات كالتى تبتلعها الأجندة العثمانية بالأصالة أو من خلال الميليشيات المُستتبَعَة.

يحكمُ الجولانى بدون تفويض. حمله السلاح إلى قصر الشعب، وما زال يحرس بقاءه فيه. وشرعيّته الباهتة إنما تتولَّد من لوثة الأغلبية السنية ورغبتها فى الثأر، ثم ثِقَل السنوات الطويلة الماضية وعدم الرغبة فى تكرارها، وطاقة الاحتمال الشعبية بمنطق أنه لا شىء أسوأ مِمَّا كان. أى أنها شرعية الأمر الواقع أوّلاً، والصورة الضدّ عن الأسد ولو كانت أسوأ منه ثانيا، وتوافقات الخارج ومصالحها ثالثا؛ إنما قبل الأمرين قطعًا.

وبهذا المنطق، جلس الرجل على العرش دون صِفَة أو مُسمَّى، وعيّن حكومة مؤقّتة، ثم نصّب نفسه رئيسا واستبدل بها أخرى دائمة، وحدَّد معالم الانتقال وشروطه ومداه، وفوّض نفسه فى تمثيل الدولة وقيادة الإدارة التنفيذية واختيار المُشرّعين ولجنة الدستور، مع الحق فى الاعتراض على كل هذا وإلغائه دون مُبرِّر أو مُراجعة. وفى مقابل تلك الصلاحيات المُطلقة؛ فإنه لم يُشرِك الآخرين تحت ظلّه المقدّس، ولم يغلّ أيدى رجاله عن الولوغ فى دمائهم بلا جريرة أو ردع.
عقب أحداث الساحل المُشينة، شكَّل لجنة بإرادته الفردية ومنحها شهرا للتحقيق، ثمّ مدَّد المُهلة، وبعد أربعة أشهر ما تزل الأحداث مُعلّقة فى الفراغ كأنها من فِعل الشياطين، ولم يُحاسَب أحد على المقتلة. تفجّرت كنيسة فى العاصمة فتعجّل نسبة الجريمة لداعش؛ ثم أصدر تنظيم جديد بيانًا بمسؤوليته عنها. وبالبديهة؛ فإن دماء عشرات الدروز ستذهب سُدى كسابقتها، ولن يجد ذوى الضحايا مُدانين أو تعزية. حتى العدالة الانتقالية تُدار بالهوى؛ فيُنكَّل بموقوفين ويُخلَّى سبيل غيرهم، ولا يُعرَف على أى قاعدة يُحجَز الناس أو يُطلَقون.

ما حدث فى الجنوب إمَّا أنه بقرار من أعلى رأس فى السلطة، أو بخروج عنه من وزير دفاعه وميليشياته التى صارت جيشًا. وفى الحالين تكشف الحادثة عن اختلال بنيوى عميق، عندما يتحوَّل الرئيس إلى قائد عصابة يوظِّف رمزيّته وموقعه السياسى لإسدال الغطاء على ممارسات من خارج القانون، أو يبدو واجهة لأطراف أقوى منه، تتحكّم فى المجال العام وتُقرِّر شؤونه، وليس له من الأمر إلا أن يلعب أدوار التهيئة والعلاقات العامة وامتصاص فائض الغضب.

وفى كلا الاحتمالين؛ فإنه يزهد فكرة الوطن لصالح العصابة. يُقدِّم الأيديولوجيا على البلد، ويخرج من الرابطة الوطنية إلى بدائل بدائية ذات نكهة مذهبية أو عِرقية. وحتى بافتراض أنه مُسَيَّر لا مُخَيَّر، ومُضطر فيما يذهب إليه اتّقاء لانقلاب حلفائه عليه؛ فالمعنى أنه نائب عن أجندة لا يملك حقّ وضعها أو التعديل فيها، وأن نظامه المفروض على الناس من أعلى بثِقَل الواقع والقوّة القاهرة، لم يُغادر فضاء الميليشا وإن ألبسه رداء الدولة. أى أنه مُوكَّل بمهمّة، وصعّدته الظروف والتوازنات، لا الجدارة ولا لأنه يملك ما لا يتوافر لغيره، ويقدر على ما تعذّر على الأسد ويستحيل على الآخرين.

وما يُنسَب إليه على معنى النجاح، أكان من التقارب مع الولايات المُتّحدة أو التوصًّل لرفع العقوبات؛ إنما يُحمِّله أعباء أكبر إزاء الداخل، ويُعظّم كُلفة الارتباك وما يتولّد عنه من ضغوط على السوريين. فلم يعُد مرفوضا من المحيط القريب أو البعيد، ولا واقعًا تحت ضغوط ثقيلة تفرض الاستثناء وتُبرّره، ما يعنى أن التقاعس عن الاضطلاع بمهامّه الإلزاميّة الواجبة تجاه القاعدة الشعبية العريضة، إنما يعود لأفكار ومُحدِّدات أُصوليّة تضبط رؤيته وتُقوّض تحركاته، وتحمل إشارات إلى صعوبة إنجاز الانتقال الأَولى والأهم، أى الانتقال على صعيد تركيبة الحُكم وفلسفتها ومدى استيعابها للفكرة الدولتيّة ونظامها المدنى الحديث.

وعليه؛ يمكن القول من دون مُزايدة أو اعتساف، إن تجربة الجولانى أقرب إلى مشروع فِتنَوى تقسيمى. صحيح أنها لا تُجاهر بهذا ولا تطلبه؛ لكنها تمضى إليها بحماوة وثبات لا تُحسَد عليهما، إمّا بالجهل وانعدام الخبرة، أو بالضلالة وتوهَّم القوة والاقتدار. وإذا كانت الحاجة للإجماع على أعلى ما يكون اليوم؛ فإن الانصراف عنه لا يعنى إلا رفضه والتعالى عليه، وأن سنوات الإدارة المؤقّتة التى جرى تمديدها من ثلاث إلى خمس سنوات؛ إنما يُراد منها تقليص طموحات السوريين، وتثبيت ركائز الظهير الأُصولى وإحكام قبضته على الدولة ومجالها العام، بحيث لا يعود مُمكنًا للرافضين أن يُعطّلوا المسار لاحقا، ولا أن يحتاج الحُكّام لتبريره أو بذل أى مجهود لضمان استدامته.

أحداث الساحل والسويداء، وما يُحضَّر علنا وفى الخفاء لمناطق الكُرد، وكل ممارسات الترويع والبطش بالأقلّيات فى بقية المحافظات، وأعمال التحرُّش بالمسيحيين وغيرهم، والقتل على الهُوية، واستعراض القوّة على المدنيين من غير الأغلبية السنيّة، كلها أعراض لمرض واحدٍ، وليس تشكيلة من المخاطر والمُنغّصات كما يسعى الأصوليون لتسويقها. لا العلويون يُنادون على إيران، ولا الدروز يسعون للالتحاق بإسرائيل، كما أن الأكراد يعرفون أن فكرة الاستقلال أو الوطن البديل دونها الرقاب مع ثلاث دول مُحيطة، والكنائس لا تُغازل الفاتيكان قطعا. كلهم يبحثون عن سوريا الجامعة المُوحّدة؛ فيما تُدار الأخيرة من سُلطة تنظر فى المرآة ولا ترى إلا نفسها ومُحازبيها والرعاة والممولين فحسب.

طَوق النجاة فى الحسم والحزم والمُساءلة. فى عدم استسهال العنف والترخص فيه، أو ابتذال الدم وتمريره من دون مُساءلة. وقفة جادة وجردة حساب للشهور السبعة الماضية، ويد باطشة بكل مَن تورّط فى النَّيل من الأقلّيات أو ترويعها، إعادة تأهيل للرابطة الوطنية، وتكييف جديد للسلطة على وجه أكثر انفتاحا وتشاركية.

دستور أقرب للمدنية من الداعشية، وهيئات حُكم يُمَثَّل فيها الجميع بلا انتقاء، وبالكفاءة لا بالزبائنية أو الاستنساب العقائدى. أن يعرض الجولانى نفسه على الشارع فى استفتاء؛ إن تعذّرت الانتخابات، ويعرف نسبة داعميه ولا يتألّى على رافضيه، ثم أن يُشرك الجمهور فى اختيار السلطة ومُساءلتها. لا فساد أكبر من الحُكم دون شرعية، ومن الانفراد دون مُحاسبة، ومن ضمان أن الأمور تمضى لصالح السلاح فى كل الأحوال؛ لأنها عند نقطة مُعينة قد لا تمضى، أو تصير احترابًا أهليًّا ربما لا يُريده أحد اليوم؛ لكنه أقرب إليهم جميعًا مِمَّا يتخيّلون.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب