عادل القليعى

الإنسان المعاصر... أزمة وجود

السبت، 12 يوليو 2025 10:07 ص


نعم هناك أزمات يعاني منها إنسان العصر ، شأنه شأن بني جلدته على مر عصور الإنسان، أزمات طاحنة تكاد تفتك به وتخرجه رغما عنه من مرحلة الوعي والإدراك إلى مرحلة اللاوعي، أو على أقل تقدير تصيبه بالاباثيا أو اللامبالاة، فينزوي تاركا الدنيا زاهدا فيها، غير مكترث بمشاكلها أو حتى بمفانتنها ومباهجها، وقد يصل به الأمر إلى أن يودع مصحة نفسية أو يصاب بحالات من القلق الوجودي الذي يأخذ بناصيته إلى اليأس، فإن كان كاتبا مؤلفا يقوم بإحراق كتبه، وإن كان يحترف أي حرفة وصاحب أسرة يهملها.

نعم إنها أزمات متعددة ومتلاحقة يعاينها الإنسان ويعانيها، فما أن تهدأ ثائرته إلا وتلاحقه أزمة أخرى.
إنه الإنسان الذي يجمع بين جنباته المتناقضات، فبه الحب والكره، الخير والشر، الحسن والقبح.
إنه الإنسان المحكوم عليه بالشقاء والنصب والتعب، حتى من نظن أنهم سعداء هم يخبأون تعاستهم خلف ابتساماتهم المصطنعة.
إن من أخطر الأزمات التي يتعرض لها الإنسان، أزمة الاغتراب، اغترابه عن ذاته، انتزاعه من ذاته لمحوها ليصير عبدا ذليلا ينفذ ما يؤمر به دون تردد ، دون اعتراض ، دون مناقشة.
اغتراب عن ذاته الأم الرئيسة فيشعر أن لا قيمة له، ذات بعدما كانت مفكرة وقائدة تصير مقودة، وبالضرورة من يغترب عن ذاته سيغترب عن وطنه الثاني ، فوطنه الأول ذاته، أما وطنه الثاني فهو حياته المعيشية، فيصير مواطنا مغتربا في وطنه، في بلده ، فعلى الرغم من إنه الأساس الأصيل إلا إنه يفقد كل هذه المميزات ، لماذا ، لأنه يشعر أن كل ما يقدمه لا يلتفت إليه الآخرون ،  وأن رويبضة القوم مجهولي الهوية هم من يتطاولون فى البنيان، ويعيشون كالملوك نتيجة استعبادهم فصاروا عبيدا أذلاء، لكنه رفض ذلك وتمسك بفردانيته وشخصانيته فكانت النتيجة الحتمية ، اغتراب داخلي ، يعيش ولا يعيش، يحيا ولا يحيا، فينغلق على ذاته ويغلق أبوابه عليه وينتظر الموت ، أو تثور ثائرته على تلكم الأوضاع فيودع غياهب السجون أو في أضعف الإيمان يطرد وينفى قسريا.

نعم إنها أزمات طاحنة قد تودي بالإنسان وذاتيته إلى الهاوية فيتحول من إنسان إلى كائن يأكل ويشرب، إلى مجرد رقم قومي فى سجلات الدول يعد عدا ضمن مقياس تعداد السكان (عدد في ليمون)، وسيظل هكذا إذا لم تعد إليه ثقته في نفسه، إذا لم يعود إلى شخصيته التفكرية، إذا لم يشعر بوجوده الحقيقي، إذا لم يجد من يقل له (أنت إنسان ، لك كل حقوق الإنسانية ، أنت مواطن من الدرجة الأولى، أنت لست مجرد رقم على خارطة التواجد العالمي، إنما أنت ذات مبدعة، أنت حر متفرد ومسؤول عن حريتك، أنت قيمة حقيقية في ذاتك، في وجودك، لا قيمة مضافة، بل أنت الذي تضيف لواقعك مجملا إياه، مشاركا في إيجاد حلول لمشاكله وقضاياه.
ومن العثرات التي تفقد الإنسان هويته وتصيبه بالإحباط، غياب العدالة وسيطرت شريعة الغاب والكيل بمكيالين، وانتشار الظلم في أبشع صوره وسيطرت الأوباش الذين يسطون على مقدرات الشعوب ويستولون على الأرض ويهتكون الأعراض والكل خانع واقف يتفرج، لا أحد يجيب طفلا رضيعا ينقذه بعبوة لبن يسد بها رمقه ، أي عدل هذه ، أي قيم هذه ، أين حقوق الإنسان، أين منظمات العدل، لماذا كل هذه الازدواجية في المعاملة.
أين الصدق في القول والإخلاص فى العمل، لماذا نقول كلام بالأمس ونغيره اليوم ، لماذا نتغني تمجيدا فى الفضيلة ثم ننقلب عليها في لمح البصر، لماذا لا نحب الناصحين، لماذا ذيوع وشيوع الأنا العليا، لماذا (ما أريكم إلا ما أرى، لماذا أنا صح على الدوام وغيري مخطئون)
أين احترام المعتقد، احترام الأديان ، أين حرية العبادة ، لماذا تحول عالم الدين إلى رجل دين، لماذا أصبح الدين سلعة تباع لمن يدفع أكثر وتشترى، لماذا كل من هب ودب صار إماما وخطيبا والعلماء الربانيون يهمشون وتخرس ألسنتهم، ويتهكم على علمهم، لماذا أصبح الدين ألعوبة في أيدي الساسة.
أين المثقف الحقيقي، أين المتلقي الناقد، أين الفكر الحر والرأي الثاقب، أين منافذ نشر الوعي الثقافي، لماذا كل هذا التجهيل المتعمد، لماذا نرى رويبضة القوم هم من يملأون شاشات التلفاز والفضائيات، أهي الوساطة والمحسوبية التي أهدرت على أعتابها وتحت أقدامها كل قيمة جميلة ، كل موهبة حقيقية.
أليست كل هذه الأمور حادثة وواقعة بالفعل ، أليست كل هذه الأشياء نذير شؤم يهدد بضياع الإنسان بما هو كذلك.
لا أحب أن يصفني أحد باليائس أو المتشائم، لكنها الحقيقة التي نحياها ، إنه الواقع المرير الذي نعيشه ، لا قول في بلد ومكان بعينه ، وإنما فى المدينة العالمية.
قد أكون مخطئا ، ليتني أكون مخطئا.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب