في الوقت الذي تتواتر فيه المساعي الأمريكية لعقد اتفاق مع إيران فيما يتعلق بملفها النووى، باعتبارها محاولة للبحث عن اختراق في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء حالة من العجز الدولي عن احتواء الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال الاسرائيلي في غزة، تبدو زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للقاهرة بمثابة محطة محورية في إطار محاولات بناء الاستقرار في الاقليم، ليس فقط لكونها تفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، وإنما أيضا في ظل إعادة صياغة ترتيبات المنطقة نحو الاستقرار المستدام، خاصة وأنها جاءت في لحظة فارقة، يبدو فيها الشرق الأوسط على أعتاب حرب اقليمية شاملة، في ضوء دخول الدولة العبرية على خط الصراع، ناهيك عن التهديدات المتواترة للرئيس دونالد ترامب حال فشل التفاوض.
ولعل الملموس في هذا الإطار، هو أن الأبعاد الثلاثة سالفة الذكر، (العلاقات الثنائية وإذابة المحاور والملف النووي)، تحمل ارتباطا وثيقا، فالعلاقة بين القاهرة وطهران، تعد مدخلا مهما، لإنهاء حالة الاستقطاب التي شهدها الإقليم خلال العقود الماضية، جراء انقسامه إلى محورين، أحدهما ممانع، وضعت الدولة الفارسية نفسها في مقدمته، عبر دعمها لجماعات المقاومة، بينما صيغ فيه الدور المصري باعتباره ركيزة المحور الآخر، على أساس رؤيتها القائمة على تعزيز الدبلوماسية، باعتبارها السبيل للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وممارسة أقصى درجات الضغط على الاحتلال، مع مراعاة حالة الاستقرار الجمعي للمنطقة بأسرها، وهو الأمر الذي أتى بثماره في ضوء العديد من المكاسب التي تحققت لصالح القضية الفلسطينية، من تحت أنقاض "المقاومة" بمفهومها التقليدي، في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، ربما أبرزها الاعترافات المتواترة بدولة فلسطين، بالإضافة إلى الحشد الكبير الداعم لها من مختلف مناطق العالم.
ومسألة إذابة المحاور، هي الأخرى، مرتبطة بصورة كبيرة الملف النووي، في ضوء العديد من المعطيات، وأبرزها حاجة إيران لدعم القوى الإقليمية البارزة، فيما يتعلق بالمفاوضات التي تجرى مع الولايات المتحدة، خاصة مع المرونة الكبيرة التي تحظى بها الدبلوماسية المصرية، وقدرتها على التواصل مع الأقطاب الإقليمية الأخرى، والتي تبقى طهران في حاجة إلى دعمها، في مواجهة التهديدات الأمريكية، بالإضافة إلى تحقيق قدر من التوازن المفقود، في الحديث الدولي عن هذا الملف تحديدا، في ضوء التستر المتعمد عما تملكه إسرائيل من أسلحة نووية، مما يتعارض مع دعوات لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، خاصة تحت الإدارة الحالية في تل أبيب، والتي سبق وأن هدد عدد من المسؤولين بها باستخدام السلاح النووي في قطاع غزة، وهو ما يعكس حجم التهور لدى اليمين المتطرف في إسرائيل، في مواجهة مدنيين عزل.
اللجوء الإيراني إلى مصر يبدو محسوبا بدقة، فهو يعكس إدراكا بمعطيات المرحلة الجديدة، والتي لم تعد تحتمل المزيد من الاستقطاب، في إطار سياسة المحاور التي هشمت الإقليم، وأضاعت الحقوق، بالإضافة إلى كونها تمثل تماهيا مع الواقع، بعد الضعف الكبير الذي استشري في أذرعها المتناثرة، والتي حملت شعار "المقاومة" بمفهومها التقليدي، بدءً من فلسطين مرورا بلبنان، وحتى اليمن، ناهيك عن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، لتصبح أوراق المناورة محدودة للغاية في يد طهران، في مواجهة الضغوط الدولية، بينما تبقى القاهرة، بحكم شراكاتها الواسعة المتناثرة بين الشرق والغرب، وسيطا يمكن الوثوق به في إدارة القضايا الخلافية، وهو ما يعكس إدراكا إيرانيا لأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه القاهرة، كأحد أهم بوابات الحل لأزمتها مع العالم، والتي تبقى مرتبطة في جزء كبير منها بالأوضاع على الأراضي الفلسطينية، مما يضع على الطاولة صفقة من شأنها تحقيق الاستقرار الإقليمي، فيما يتعلق بالعديد من الملفات العالقة.
لقد تجلت الأبعاد الثلاثة المشار إليها بوضوح خلال زيارة عراقجي للقاهرة، التي شكلت دفعة قوية للعلاقات الثنائية، وعبّرت في الوقت نفسه عن تقارب غير مسبوق بين محورين طالما وقفا على طرفي نقيض لعقود طويلة. غير أن البُعد الثالث، المتعلق بالملف النووي، كان الأكثر حضورًا، وتجلى في اللقاء الثلاثي الذي جمع عراقجي بالمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل جروسي، بحضور وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، وهو لقاء يعد مؤشرًا لافتًا على اعتماد مصر كقناة موثوقة بين طهران والمجتمع الدولي في هذا الملف المعقّد، وهو ما يرسّخ الدور المصري كوسيط يتجاوز الوساطة التقليدية إلى مستوى أرفع من التأثير، يقوم على إعادة هندسة العلاقات بين القوى المتنافسة، سواء داخل الإقليم أو خارجه. وهذا الدور تنوع بين إدارة مصر لمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، وتقريب وجهات النظر بين الغرب والداعمين للحق الفلسطيني، وانتهاءً بما يمكن وصفه بـ"وساطة المبدأ"، التي تقوم على شرعية أخلاقية لا تمتلكها سوى قلة من الفاعلين، ربما باتت تسعى إليها أوروبا في اللحظة الراهنة فيما يتعلق بفلسطين، في ظل التهميش الأمريكي لها، وهو ما سبق أن تناولته تفصيلًا في مقال سابق.
وهنا يمكننا القول بأن زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة تنطوي على أبعاد مركبة، يتصدرها إدراك متنامٍ لدى الفاعلين الإقليميين بأهمية مغادرة منطق التنافس الصدامي، أو على الأقل تحييده، في لحظة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط، لصالح مسار تكاملي يفضي إلى إعادة بناء التوازن الإقليمي، وهو مسار لا يمكن بلوغه دون التحرر من الأنماط الفكرية الجامدة، والانفتاح على رؤى جديدة تعلي من شأن الاستقرار، وتضع في مركز أولوياتها المسألة التنموية بوصفها جوهر الرؤية المصرية للاستقرار المستدام، لا باعتباره هدنة مؤقتة، بل كحالة استراتيجية متكاملة تعاد على أساسها صياغة معادلات النفوذ والشرعية في الإقليم بأسره.